عبد الحميد صيام
بعيدا عن التسريبات التي لم تتوقف يوما حول بنود صفقة القرن لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرة وإلى الأبد، وبعيدا عن المواعيد المتقلبة التي قيل إن إدارة ترامب ستعلن فيها عن الصفقة المسمومة، هناك مجموعة من الحقائق لم تعد بحاجة لا إلى تسريب ولا إلى موعد لإطلاقها وأهمها:
– من المؤكد أن الصفقة لا تتضمن دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة مترابطة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف، وهو الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التي جرى تعميمها بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993؛
– الصفقة تستثني القدس تماما، وتمنحها للجانب الإسرائيلي وإن جيء على ذكر الفلسطينيين في القدس، فإنما يذكرون كأفراد بدون حقوق، وقد يسمح لهم بممارسة شعائرهم في محيط المسجد الأقصى وكنيسة القيامة؛
– الصفقة تلغي مرة وإلى الأبد حق العودة، ولا تترك أمام الملايين من اللاجئين الذين اقتلعوا من أراضيهم وديارهم إلا خياري التعويض والتوطين؛
– والصفقة بالتأكيد ستوسع الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، وتضم إليها المستوطنات ومعظم مناطق جيم من اتفاقيات أوسلو 2 المشؤومة.
فماذا بقي من سر للكشف عنه؟ ربما المال المقبل من دول الخليج، وربما الدعم العربي، الذي تم جمعه أو ضمانه لإنجاح الصفقة، وربما توسيع قطاع غزة على حساب سيناء. إذن كل ما يقال عن تسريب وعن تفاصيل لا أحد يعرفها وعن موعد لإطلاق الصفقة كل ذلك لم يعد له أي قيمة، لأن الخطة ليست صفقة تجارية، فصفقة القرن باختصار عبارة عن خطة نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية، تم تسويقها بسهولة لإدارة ترامب يربح فيها البائع والمشتري معا، بل هي باختصار:
استسلام غير مشروط من الطرف الفلسطيني، وإعلان انتصار المشروع الصهيوني الذي تم اعتماده عام 1897 في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، بهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين. أي دولة لليهود فقط في كل فلسطين. ، عن طريق الثالوث الأكثر تطرفا في دعم إسرائيل: كوشنر- غرينبلات- ليبرمان، مستغلا الضعف الفلسطيني الذي جاء أولا، بسبب الانقسام ووجود دول عربية تقف علنا وسرا مع الموقف الإسرائيلي، ثم وجود إدارة أمريكية منسجمة تماما مع التوجهات الإسرائيلية.
من غزة يأتي الرد على صفقة القرن
تزامنت تصريحات كوشنر يوم 2 مايو/ أيار في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى القريب من نتنياهو، حيث أعلن عن جوهر الصفقة، بأن الأرض لإسرائيل مقابل لقمة العيش للفلسطينيين قائلا: “نحن نريد حياة أفضل، للفلسطينيين ومن الناحية الأخرى ضمان أمن إسرائيل وأن تكون أكثر قوة”، تزامنت مع مسيرة العودة يوم الجمعة التي جوبهت بالرصاص الحي، فسقط ثلاثة شهداء وأكثر من خمسين جريحا. فقامت حركة الجهاد الإسلامي باستهداف قناصين إسرائيليين قرب السياج الفاصل، وأصابت اثنين منهم بشكل مباشر. أطلقت بعدها إسرائيل جام غضبها على قطاع غزة، فشنت أكثر من 350 غارة جوية، ودمّرت البنى التحتية والمقرات الأمنية والمباني السكنية، مسببة خسائر مادية كبيرة واستشهاد 23 مواطنا، من بينهم نساء حوامل وأطفال. اجتمعت بعدها غرفة العمليات المشتركة لكافة فصائل المقاومة، وقررت أن ترد على العدوان وتوجع العدو الصهيوني، وتُسمع الدنيا صراخه، وليتيقن أن الفلسطينيين ليسوا بطة عرجاء يسهل صيدها، بل قادرة على أن تضرب في العمق، وتنزل الرعب في صفوف المستوطنين. وهو ما عجّل بوقف إطلاق النار عن طريق مصر، وبشروط أقرب لمواقف المقاومة مثل التهدئة طويلة المدى واختراق وقف إطلاق النار سيكون الرد عليه فوريا، كما طالبت المقاومة بتخفيف الحصار وفتح المعابر وتوسيع عمق شريط الصيد البحري.
لقد كانت مناشدة السلطة يوم السبت لمجلس الأمن والمجتمع الدولي لوقف العدوان، تجربة عدمية لم يستمع إليها أحد، بل إن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أصدر بيانا لئيما ومنحازا للرواية الإسرائيلية تماما، وكأنه ناطق باسم الجيش الإسرائيلي عندما “أدان بأقسى العبارات إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه المناطق المدنية في إسرائيل”، متجاهلا تماما العدوان الإسرائيلي والضحايا من الفلسطينيين، بمن فيهم الشهيدة أماني المدهون وجنينها أيمن، الذي استكمل التسعة شهور، وعلى وشك أن يخرج للحياة، والرضيعة صبا محمود عرار ابنة السنة ونصف السنة.
لقد قدمت غزة ردا عمليا على صفقة القرن، تشمل مظاهرة سلمية شعبية منظمة، وعندما جاء العدوان كان هناك رد جماعي شاركت في صنع القرار جميع الفصائل وكان الرد مدروسا ودقيقا وموجعا فتوقف العدوان.
مواجهة الصفقة
من غير المنطق وليس مقبولا أن تبقى القيادات الفلسطينية التقليدية، التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى هذه الأزمة الوجودية، تعيد وتكرر اللغة الخشبية التي بنيت على المراهنة على وهم إقامة الدولة المستقلة، وعملية السلام واللجنة الرباعية وخريطة الطريق، والمبادرة العربية التي ولدت ميتة، والإجماع الدولي حول حل الدولتين.
من غير المنطق أن تعيد القيادة الشعارات الخاوية نفسها من التوجه للمجتمع الدولي ومجلس الأمن والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، والتهديد بالانضمام لمزيد من المنظمات الدولية، والتهديد بالتوجه للمحكمة الجنائية الدولية، أو التهديد بوقف التنسيق الأمني (التهديد فقط لا بوقفه فعلا). فكلها لن تقدم ولن تؤخر شيئا. هذه التصريحات المكررة من الأشخاص أنفسهم لن توقف المدحلة الأمريكية التي يسوقها نتنياهو، والتي ستحاول دفن القضية الفلسطينية.
إن ما يجري من رمي الكرة مرة في ملعب المجلس المركزي، الذي يعيد الكرة للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي تقذف الكرة إلى ملعب ما يسمى المجلس الثوري لفتح، ثم للمجلس المركزي مرة أخرى فيطلق رئيس المجلس الوطني أيضا تصريحا آخر. كل ذلك ممارسة عبثية لن يخرج عنها شيء والجميع يعرف هذا.
?إن مواجهة الخطر الوجودي المقبل بأساليب الماضي نفسها، وبشخوصه أنفسهم وحتى باللغة نفسها ممارسة أقرب إلى الانتحار الجماعي. يجب أن نعترف بأن الوضع الفلسطيني في أسوأ حالاته، ليس بسبب الانقسام فحسب، بل لغياب منظمة التحرير الفلسطينية وتهميشها المتعمد، وغياب فصائل العمل الوطني، التي لا تكاد تظهر إلا في مناسبات ذكرى انطلاقتها، وضعف المجتمع المدني وتهميشه، بعد تحويل معظم الاتحادات والنقابات والمبادرات النضالية إلى منظمات غير حكومية، تستلم تبرعات لميزانياتها الكبيرة من الخارج، وغياب الممارسات الديمقراطية تماما وغياب المبادرات الجماعية، وأشكال النضال الجمعي، الذي ظهر جليا في رد الفعل المحدود على قرار ترامب حول القدس وقطع المساعدات، ونقل السفارة إلى القدس. كما أن جزءا كبيرا من المثقفين وصناع الرأي والكتاب أصبحوا يعتاشون على علاقتهم مع السلطة، وانكفأوا عن الانخراط في العمل السياسي المبدع، خوفا من عقاب أو طمعا في مزايا، كما غابت المنابر السياسية والإعلامية المستقلة خارج إطار السلطة.
وفي ظل هذا الوضع أصبح التطبيع مع الكيان الصهيوني أمرا عاديا، كزيارة وفود صحافية أو مسؤولين عرب للقدس، أو استقبال وفود رياضية وعزف النشيد الإسرائيلي في أكثر من بلد عربي، بل استقبال نتنياهو في بلد عربي لن يكون الأخير. ?المطلوب الآن ثلاثة أمور سريعة: إلغاء أوسلو، خاصة الجزء المتعلق بالتنسيق الأمني، وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وجمع كافة الفصائل والمؤسسات المدنية تحت مظلتها، والاتفاق على برنامج مواجهة ونضال جماعي شامل وعارم ومتواصل، لا يستبعد فيه الرد على العدوان فحق مقاومة الاحتلال مشروع في القانون الدولي ومنصوص عليه في القرار 3236 (1974) والمتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني.
إنني أشيد الآن بالتيارات الوطنية في الأرض الفلسطينية والشتات، التي بدأت تعيد بلورة جوهر القضية الفلسطينية القائم على ثلاثة أضلاع متكاملة: وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة الهدف، وبدأت تفتح حوارات شاملة بشكل جاد وعميق حول التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية، بهدف بلورة مشروع وطني شامل يوازن بين الواقع والطموح، وبين الممكن والمطلوب، وبين المهمات النضالية والإمكانات المتاحة، وفي جوهر هذا التيار التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، خاصة في فلسطين التاريخية، التي يبدو أن قدرها أن تلعب دورا رياديا في المرحلة المقبلة، لأن وجودهم مستهدف، بعد أن أصبح اقتلاعهم من أراضيهم قاسما مشتركا بين الأحزاب المتطرفة في الكيان.
الشعب الفلسطيني سيعمل على فرض الانتصار ولن يستسلم ويرفع الراية البيضاء كما يتوهمون. لكن المطلوب الآن وفورا تعلم دروس من صمود غزة وإعادة الاعتبار للمقاومة بعد أن أوصلتنا المفاوضات العبثية إلى حافة الهاوية، أو إلى الهاوية نفسها. مطلوب الآن التأكيد على وحدة القضية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة الخريطة الفلسطينية، والالتفاف حول هدف قابل للتحقيق يلعب الفلسطينيون فيه دور الريادة والقيادة، وعندها سيلحق بهم شرفاء العرب وشرفاء العالم من أنصار الحرية والعدالة والسلام في كل مكان.