بقلم د. وليد القططي
الاعتذار من أخلاق الكبار النبيلة، وشيم الأقوياء السامية وثقافة المتحضرين الراقية، وهو فن إنساني رفيع، وأدب بشري شريف، والاعتذار يجمع في باطنه عدة فضائل: أولها الاعتراف بالخطأ وتحمل مسؤوليته، ثم التوّقف والرجوع عن الخطأ، ثم تصحيح وتصويب الخطأ. والاعتذار عن الخطأ بحق الأفراد واجب إنساني وفضيلة أخلاقية فكيف إذا كان الخطأ قد أُرتكب بحق الجماعات وطال ضرره الملايين من البشر، فمسَّ بكرامتهم الإنسانية، وأصاب قدرتهم على الصمود في وطنهم، قبل أن يمسَّ قوت أطفالهم، ويصيب مصادر أرزاقهم، ويُدّمرُ أساسيات حياتهم... أليس هذا ما فعلته عقوبات السيد الرئيس بغزة وأهلها؟!، ألا يستحق ذلك الاعتذار لغزة وأهلها؟! وإذا كان ذلك يستحق فمتى سيعتذر السيد الرئيس لغزة؟!.
الاعتذار لغزة وأهلها واجب إنساني وأخلاقي ووطني، بعد أن حققت غزة بشعبها ومقاومتها نصراً واضحاً في آخر جولات التصعيد العسكري مع الاحتلال، هذا النصر هو لكل الشعب الفلسطيني، ولصالح القضية الفلسطينية، بعد أن خاضت غزة بشعبها ومقاومتها ملحمة بطولية هي معركة كرامة جديدة، كانت فيها نداً عنيداً وصلباً للعدو الصهيوني بكل غطرسته الجريحة وترسانته المُسلحة، فرّسخت معادلة ردع جديدة لصالح المقاومة، وثبتت قواعد اشتباك يد المقاومة فيها هي العُليا، وراكمت نقاط قوة إضافية للشعب والقضية ونقاط ضعف جديدة للكيان الصهيوني وجيشه، وانتزعت من العدو عنصر المبادرة والمفاجأة التي طالما تغنّى بها، وأدارت المعركة بطريقة ذكية وحكيمة ومنضبطة وموّحدة بعيداً عن الانفعالات والعنتريات... وغير ذلك من المكتسبات لصالح الشعب الفلسطيني تستوجب أن يستفيد منها السيد الرئيس ويراجع كل سياساته في إدارة الصراع مع العدو، متسلحاً بكل الشعب الفلسطيني بعد إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية.
الاعتذار لغزة وأهلها واجب إنساني وأخلاقي ووطني، بعد أن اتضح لكل ذي عقل، أو ألقى السمع وهو شهيد، أن سياسة العقوبات ضد غزة غير حكيمة، وغير فعّالة، وقد أثبتت فشلها بامتياز كفشل الفريق الخيبان الذي أشار على الرئيس بفرضها على الشعب الصامد المقاوم في غزة، الفريق الذي خدعهُ بأنها الطريق الوحيد التي ستؤدي إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، عن طريق الضغط على الشعب الفلسطيني في غزة كي ينفجر في وجه حماس، وينفضَّ من حول المقاومة، فيتم الاستجابة لشروط السلطة، وفي طليعتها نظرية التمكين المصنوعة في غرف التنسيق الأمني المُظلمة السرية، والتي تعني في باطنها نزع سلاح المقاومين من فوق الأرض وتحت الأرض، لتصبح الأرض وما عليها ومن عليها مُستباحة للعدو يفعل بها وبشعبها ما يريد. والذي حدث عكس ما أراده الفريق الفاشل فقد انفجر الشعب في وجه الاحتلال عندما شارك بقوة في مسيرات العودة وكسر الحصار، وقد ازداد التفافه والتصاقه بمقاومته البطلة في كل جولات التصعيد مع العدو، وكان ذلك واضحاً في الجولة الأخيرة التي طالبت فيها جماهير الشعب الحاشدة المقاومة بالانتقام لدماء شهداء خان يونس.
الاعتذار لغزة واجب إنساني وأخلاقي ووطني، فالعقوبات ليست فقط تناقض القيم الإنسانية عندما تمس بالكرامة الإنسانية، وتناقض المبادئ القانونية التي تُحرّم العقوبات الجماعية، عندما تُعاقب الناس بطريقة جماعية عن ذنب لم يرتكبوه (الانقسام)؛ فالعقوبات خلل في العلاقات الوطنية عندما يستخدم فريق السلطة العقوبات طريقاً للتعامل مع الفريق الآخر أو حاضنته الشعبية بديلاً للحوار الوطني، في الوقت الذي تتعرّض فيه هذه الحاضنة لحصار قاسٍ من العدو، وحروب عدوانية متكررة، فيؤثر سلبياً على قدرة الشعب على الصمود فوق ثرى الوطن. والعقوبات خلل في المنظومة الأخلاقية السياسية، الفلسطينية، فالوصول إلى هدف نبيل كإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، لا يبرر اللجوء إلى وسيلة غير نبيلة كالعقوبات الجماعية ضد مليونين من الشعب الفلسطيني الصامد والمقاوم في غزة، فتزيد العقوبات معاناتهم إلى جانب معاناة الاحتلال والحصار والحروب والانقسام.
بعد كل ذلك، متى سيعتذر السيد الرئيس لغزة؟!، والاعتذار من أخلاق الكبار وشيم الأقوياء، يعتذر لشعب غزة كجزء أصيل من الشعب الفلسطيني العظيم عن العقوبات المفروضة عليهم فيرفعها، ويعتذر لمقاومة غزة كجزء عريق من الحركة الوطنية الفلسطينية، فكيف عن التشكيك في شرعيتها والمطالبة بنزع سلاحها، ثم يتقدم خطوة أُخرى إلى الأمام فيعتذر للشعب الفلسطيني كله عن ضياع ربع قرن من تاريخ الشعب الفلسطيني سُدى في الجري وراء أوهام السلام وسراب التسوية، والاعتذار أولى مراحل تصحيح المسار وتصويب الاتجاه نحو مشروع التحرير والعودة والاستقلال الحقيقي.