Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

متى ينضج الكلام على السطور؟.. حسن عصفور

متى ينضج الكلام على السطور؟..  حسن عصفور

  "عندما هامت أمم على وجهها في الزمن القديم، كانوا يدَعون الصدفة تحملهم، وتجرجرهم، وتقذف بهم هنا وهناك. وكأسراب الجراد يحطّون في أيّ بقعة من الأرض كيفما اتّفق.

ذلك لأنّه في الزمن القديم كانت الأرض مجهولة بالنسبة للإنسان. أمّا هذه الهجرة الحديثة لليهود فلا بد أن تجري وفق مبادئ علمية".

هذا ما دوّنه رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ثيودور هيرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) والذي باح بمضمونه في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد بزعامته في مدينة بازل عام 1897م والذي من خلاله تم الاتفاق على هدف الصهيونية وهو إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في أرض فلسطين التاريخية.

هكذا إذن، بدأ اليهود بتدوين أفكارهم ودراستها بمنهجيّة علمية وحشد الحشود وكسب الجماهير وتعاطفهم للوصول إلى الغاية المنشودة، ألا وهي احتلال الأرض وإحلال السكان في أرض فلسطين التاريخية. ومن الملاحَظ أنَّ الحركة الفكرية – العلمية والأدبية – لدى اليهود كانت آنذاك تبلغ مبلغاً جعلهم يفكرون جلياً في جنْي ثمارها وتطبيق أجندتها.

وها نحن نمر اليوم بذكرى يوم الأرض الفلسطيني 30 أذار وهي الذكرى السابعة والثلاثون لأحد هذه المخططات والأجندة الصهيونية والذي كانت تهدف إلى تهويد الجليل العربي الفلسطيني. فقد قامت السلطات الاسرائيلية بمصادرة ما يزيد عن 20 ألف دونم من أراضٍ ذات أغلبية سكانية فلسطينية مطلقة وبالتحديد في عرّابة وسخنين ودير حنّا، ونتيجة لذلك هبّت الجماهير الفلسطينية لأول مرة منذ نكبتها عام 1948 موحّدةً بصوتِ الأرض ضدّ هذا المخطط وهذا الاحتلال، وأعلنت الإضراب الشامل، وسقط إثر مواجهاتهم مع الشرطة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي ستّة من الشهداء وعدد من الجرحى والأسرى.

الأمر غير مُستغرب من غازٍ جاء مما وراء البحار لهدف واحد، وهو احتلال الأرض. ولكن ما يستدعي الانتباه هنا أمران، الأول أنّ مخطط التهويد ومصادرة أراضي الجليل تلك ليس الأول ولن يكون الأخير، إنما هو عبارة عن حلقة واحدة ضمن سلسلة من الحلقات المدروسة بشكل علمي للسيطرة على كامل الأرض الفلسطينية. أمّا الأمر الثاني وهو الأساس والأهم، هو أنَّ هذه المخططات لم تأتِ من فراغ ولمْ تحدث في يومٍ وليلة، ولم يستيقظ اليهود من حلمٍ طافَ عليهم جميعاً ذات ليلةٍ ورأوا فيه أنهم سيحتلون أرضاً ويقيمونَ دولةً لهم فيها فاستيقظوا وفعلوا ذلك. بالتأكيد بذل اليهود جهداً فكرياً – أدبياً وعلمياً- في فترة زمنية ليست بالهيّنة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتطبيق ذلك كلّه.

لذلك علينا أنْ نعي جيداً أنه كان هناكَ حركةً صهيونيةً أدبية سبقت الحركة الصهيونية السياسية بسنوات طويلة، وسخّرتْ الحركة الأدبية الصهيونية نفسها لأن تكون أداةً لخدمةِ أغراضٍ سياسيّةٍ عدوانية تهدف إلى احتلال الأرض وطردِ من فيها وإحلال سكانٍ يهود مكانهم. وهذا ما عبّر عنه غسّان كنفاني في دراسة له في الأدب الصهيوني بقوله ‘لقد قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي’.

لقد توحّدت أهداف الكتّاب اليهود، فقد كتبوا ولا زالوا يكتبون- أدباً ظاهرهُ سامٍ وإنساني ولكنّه يُخفي فيما يُخفيه أبشع النوايا. فقد لجئوا إلى الحيلة والكذب وقلب الحقائق لجذب القارئ وكسب تعاطفه ولترويج أفكارٍ سامةٍ مدهونة بالعسل في بقاع العالم المختلفة.

و أتساءل الآن .. ألم ينضج الكلامُ على السطور في أدبيّاتنا ومؤلفاتنا المختلفة؟ وإن كان كذلك، أينَ قُطّافُ الثمار ومُنجزي أهدافها؟. لا شكّ أنَّ الأدب الصهيوني حقّق مبتغاه ومراده حتى ولو كان في أبشع صوره، ولكنّهم لمْ ينسوه كذلك، فها هم يسمّون أحد أكبر شوارع مدينة تل أبيب باسم مؤلفة رواية ‘دانييل ديروندا’، وكذلك دعموا احد كتابهم لحصوله على جائزة نوبل عام 1966 فقط لأنّه يكتب كلاماً منمّقاً باللغة العبرية وهو لا يستحقُّ أن يكون من أقل المنافسين عليها. ناهيكَ عن آلاف العبارات والشعارات التي لا زال يرددها اليهود المأثورة عن كُتّابهم وأدبائهم وأشهرها على الإطلاق ـ خصوصاً في بداياتِ إسرائيل ـ عبارة ‘آخر يهودي وأول عبري’ لرائد الصهيونية الأدبية آنذاك ‘آحاد هاعام’.

إذا كنّا نطمح لجعل أدبيّاتنا وكتاباتنا قادرةً على تحقيقِ أهدافها المشروعة في مجملها، والتي لم تدسّ السمَّ في العسل كما فعلت الأدبيّات الصهيونية، وإذا لم ينضج الكلام على السطور بعد، فإنّني أرى أنّه من الضروري علينا كأدباء أنْ نطبّق مبدأ ‘الانعطاف اللغوي’ أو’Linguistic turn’ في أدبياتنا. وهذا المصطلح قديمٌ حديث. فقد ورد لأول مرة عام 1967 على لسان الأديب والفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي) والذي أراد من خلاله أن يستخدم الفلسفة اللغوية كأداة قادرة على حل المشاكل بشكل عام والفلسفية منها بشكل خاص بإحدى طريقتين. إمّا بإصلاح اللغة المستخدمة في الأدبيات والابتعاد عن اللغة المبتذلة. وهذا ما أبتغيه. وإما بالمزيد من الفهم والتفسير للغة التي نحن بصدد استعمالها.

في الحقيقة هناكَ من التزم بمبدأ الانعطاف اللغوي منذ بداياته من الكتّاب والأدباء الفلسطينيين الكبار، ولكنّهم قلائل إذا ما وضعنا تحت المجهر الأدبيات الفلسطينية المُنجزة خلال فترة ما بعد عام 1967 حتى اليوم، وإذا ما عقدنا مقارنةً في ميدان الأدب العالمي .

يسرّني كثيراً أنّني بتُّ أرى القلمَ الفلسطيني ينبض في كلّ مكانٍ في العالم، ويعِدُ حاملوه بأن يأخذوا القضيّة الفلسطينية على عاتقهم كما أخذها على عاتقهم أسلافهم والمعاصرين منهم كذلك أمثال غسان كنفاني، سحر خليفة، سميرة عزام، إبراهيم نصر الله، مي الصايغ، وثريّا أنطونيوس وغيرهم الكثيرين . ولكنْ ما يُحزنني جداً في نفس الوقت، انفصام شخصية الأدب الفلسطيني تحديداً خلال السنوات القليلة الماضية.

ربّما أكون جريئاً في استخدام مصطلح ‘انفصام شخصية الأدب الفلسطيني’ لأنّه حكمٌ قاسٍ، ولكنّه جديرٌ بالوصف هكذا لسببين، هما أولاً: بات الأديب الفلسطيني سواءً في الضفة الغربية أو في قطاع غزة أو في داخل الخط الأخضر أو في أنحاء العالم المختلفة في عزلة شبه تامّة عن زملاءه في السلك الأدبي. ربّما يلتقي الأدباء الفلسطينيين في الضفة الغربية ببعضهم أو ببعض الآخرين من عرب الداخل، أو ربّما كذلك يلتقي بعض الأدباء الفلسطينيين في غربتهم في دولة ما، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية ببعضهم كونهم داخل حدود واحدة، وتجمعهم أمسية ما أو صالون أدبي أو ما شابه ذلك. ناهيك عن أنَّ هناكَ قطعة جغرافيةً تنتمي إلى فلسطين تُسمى ‘غزّة ‘ ـ وأنا منها – مفصولة تماماً ليسَ عن جغرافيا أرض فلسطين التاريخية فحسب ولكن عن العالم كله ثقافيّاً واجتماعياً واقتصادياً !

ثانياً: لا شكّ أن الانفصام السياسي الفلسطيني ألقى بظلاله وتأثيره على الحركة الأدبية، فانفصمت ـ وربّما تناقضت ـ الأهداف التي يكتب من أجلها الكتّاب الفلسطينيون لكي ينصروا جبهةً ما أو سلطةً ما هنا أو هناك على حساب القضيّة الفلسطينية والتي هي عنوان كل المراحل بغض النظر عن النزاعات الداخلية. وبالتأكيد هناكَ عدد ليس بالقليل من الأدباء الفلسطينيين الذين سخّروا سواعدهم وأقلامهم من أجل قضية الانقسام السياسي الفلسطيني ونبذه. هذا جميلٌ بحدّ ذاته، ولكنّه يستنزف القلم الفلسطيني كثيراً، وربّما يُجبر الكثيرين من الأدباء الآخرين على تقزيم أحلامهم والكتابة إما عن هذه النزاعات ونبذها، وإما عن أمور أقلَّ أهميّةً مما يجب.

نحنُ كأدباء، علينا أن نفي بوعدنا الخالص لمنْ سلّمونا راية القضية، ونعيدُ الهدف الأساسيَّ للأدب الفلسطيني وهو التحرر والاستقلال بعيداً عن أيّة مهاتراتٍ وخلافات بالية لا تخدم إلا مصلحة الاحتلال الإسرائيلي لإنجاح مخططه السياسي كما أسسه ودعم ركائزه الأدب الصهيوني من قبل. ولنتّخذ من ذكرى يوم الأرضِ 30 آذار شعاراً للوحدة الأدبية والسياسية، ولا ندعهُ يمرُّ يوماً للذكرى فقط .

 

*أديب فلسطيني