علاء الدين أبو زينة
كثيراً ما نصاب بحمى الإعجاب المتحمس بكتاب وناشطين ومفكرين، مواطنين في دولة الاحتلال، عندما يقولون أو يكتبون أن للفلسطينيين الحق في أن يظلوا على قيد الحياة. أو إذا قالوا أن الفلسطينيين عاشوا في فلسطين، واعترفوا بعنف العصابات الصهيونية وهدم القرى الفلسطينية.
ولا شك في أن موقف هؤلاء متقدم على الصهاينة الذين ينكرون وجود الشعب الفلسطيني جملة وتفصيلاً. لكننا ننسى حقيقة أن هؤلاء، الذين نقتبسهم ونترجمهم ونحتفي بهم، يسكنون بالضبط في نفس البيوت التي بناها الفلسطينيون، أو بيوت بنوها هم أو حكومتهم على أنقاض بيوت الفلسطينيين. وهم يشغلون نفسَ الحيِّز ويتنفسون الهواء الذي هو للفلسطينيين. ونحن، لكثرة ما نحنُ بؤساء ومحتاجون إلى كسرة تعاطف، نتلقف هباتهِم الخطابية التي يرسلونها لنا من بيوتنا المحتلة، وكأنهم يُسدون لنا معروفاً.
قبل فترة، كتب روبرت فيسك نعياً لأوري أفنيري. وأفنيري مقاتل سابق في عصابات الإرغن الإرهابية، قاتل لاحقاً في حرب 1948، لكنه تحول في وقت لاحق إلى يساري، وأسس حركة "غوش شالوم" أو (حركة السلام). وأصبح أفنيري من أنصار حل الدولتين بعد أن التقى بياسر عرفات أثناء حصار بيروت في 1982 ولعب معه الشطرنج.
محتوى ذلك المقال الذي كتبه روبرت فيسك –بإعجاب- عن أفنيري، ألقى ماء بارداً على حرارة امتناني الساذج –وامتنان الكثيرين غيري- لأفنيري. ففي النهاية، ربما يصنَّف أفنيري في "اليسار الإسرائيلي"، كما يصفه فيسك بإعجاب. لكن الحقيقة هي أن "اليسار" الذي ينتمي إليه، هو "يسار" في تكوين كله "يمين" -إذا تذكرنا الحقيقة فقط: أن دولة الكيان كلها قائمة على أرضٍ مغتصبة، ليست ملكاً تاريخياً ولا قانونياً للذين أنشأوها. وفي الحقيقة، لا يختلف أفنيري كثيراً عن نتنياهو وليبرمان، فكلهم ليسوا من هناك. وقد ولد أفنيري في ألمانيا، وكان اسمه هلموت أوسترمان. ومن المؤكد أنه لم يتأمل حقيقة أنه ليس صاحب حق في الإقامة في أرض ليست ألمانية، ولها أصحاب أصليون.
يقول فيسك في مقالته عن أفنيري أنه يعيش في "منزل مزدحم بالكتب في تل أبيب، قريبٍ من البحر، وإنما في شارع متواضع هادئ، حيث يمكن لأفنيري أن يتأمل". وفي هذا الوصف الجغرافي حقيقة بسيطة، أن أفنيري يعيش على أرض يافا التي لم يولد فيها، بينما يعيش أبناؤها الأصليون في المنافي. ثم ينقل فيسك عن أفنيري قوله: "المشكلة هي أن هناك، في هذه المنطقة التي تسيطر عليها الآن إسرائيل، نحو 49 % من اليهود و51 % من العرب -وسوف يصبح اختلال هذا التوازن أكبر في كل عام لأن الزيادة الطبيعية في الجانب العربي أكبر بكثير من الزيادة الطبيعية في جانبنا. وهكذا، فإن السؤال الحقيقي هو: إذا استمرت هذه السياسة، أي نوع من الدولة ستكون؟ كما هو حالها اليوم، هي دولة أبارتهيد، أبارتهيد كامل في المناطق المحتلة، وأبارتهيد متصاعد في داخل إسرائيل -وإذا ما استمر ذلك، فسوف تكون لدينا دولة فصل عنصري كامل في كل البلد، بلا شك".
ويكتب فيسك: "وواصل أفنيري سرد فكرته. إذا منُح السكان العرب حقوقاً مدنية، ستكون هناك أغلبية عربية في الكنيست، وسيكون أول شيء سيفعلونه هو تغيير الاسم، "إسرائيل، وتسمية الدولة "فلسطين"، وستكون كل الممارسة (الصهيونية) برمتها على مدى 130 عاماً الماضية قد انتهت إلى لا شيء".
وإذن، يريد أفنيري –و"اليسار الإسرائيلي"- "حلاً عادلاً" على أساس الدولتين، لأنهم يقلقون من وصف كيانهم بما هو: كيان فصل عنصري، ومن احتمال أن يصبح الفلسطينيون، أصحاب الأرض، أغلبية في بلدهم ويعيدوا إلى البلد اسمه "فلسطين". والدولة الفلسطينية التي يؤيدونها هي التي تقل كثيراً عن رُبع فلسطين التاريخية، على أساس أن هذا هو "السلام العادل". وذلك سيضمن استمرار إقامتهم في بيوت الفلسطينيين وحُكم المتبقين منهم.
هناك "إسرائيليون" لم يعودوا كذلك، لأنهم أدركوا الواضح واعترفوا به، فحزموا حقائبهم وعادوا إلى أوطانهم الحقيقية –أو رفضوا القدوم إلى الكيان مسبقاً. وهؤلاء جديرون بالاحتفال. أما يساريو الكيان، اليميني كله بالتعريف، فجزء من الحاجز المستحيل أمام استعادة الحق الفلسطيني. وتظهر المقالات العربية التي احتفت بأفنيري يوم وفاته كم انقلب عندنا نحن أيضاً مفهوم "السلام العادل" الذي اختزل حقنا في دويلة عاجزة ربما لن تنشأ، مقابل التنازل عن كل فلسطين. لكم أصبحنا بائسين!