حنين زعبي
لم يُقل بعد كل شيء عن "قانون القومية"، وما دمنا نفكر، ما دمنا نستطيع أن نقول المزيد، فقبل هذا القانون كانت إسرائيل حرة في أن تكون استعمارية، الآن هي ملزمة.
كون القانون ينهي إمكانيات أي حراك ضد القوانين والممارسات التي تشبهه، فهو يحوّل عملية محو الفلسطيني جسديا بالقتل، وماديا بالطرد، ورمزيا بالتغييب، من إمكانية واردة ومتاحة ومسموحة ومفضلة، إلى قيمة ملزمة في معظم ما تقدم.
ويحوّل (أو يؤول) كل نضال أو تعبير ضد القتل والمحو والتغييب إلى فعل ضد الدولة. ويعلل ذلك بقصة تاريخية دينية غيبية عقائدية وما شئت... بحيث يصعب على كل من يعرف نفسه كإسرائيلي ألا يرى نفسه ملزما بالموافقة على جوهره. بالتالي، لا يتعدى وقوف الأحزاب الصهيونية ضد هذا القانون سوى كونها ترى فيه "فائضًا على الحاجة". هذا الفائض، يعني موافقة أخلاقية وسياسية عميقة على جوهر ما يحمله القانون، لكن الخلاف هو أنه لا حاجة للمزيد لمثل هذه القوانين، "فلدينا ما يكفي لكي نتصرف على أساس جوهر القانون".
المهم هو ليس ما تريده إسرائيل، بل ما نريده نحن، حيث لا مجابهة للقانون، دون الاتفاق الجماعي، ودون إنجاح كافة النشاطات الجماعية التي اتفقنا عليها. أن نبرز ونتصرف أمام إسرائيل كشعب موحد، أمر مهم وحاسم، وهو أصلا ما يشعر بقوة نستطيع استثمارها من أجل رفع الحد الأدنى من الاتفاق الحاصل حاليًا، والذي ليس بمقدوره الدفع قدمًا إلى الأمام.
نحن في الكنيست ضد كل ما يمثله ذاك المكان، ونحن كذلك نستطيع أن نكون في ساحة "كيكار رابين"، الذي كسر عظام شباب الانتفاضة الأولى، والذي وقع على اتفاقية أوسلو كخطة لقمع النضال الوطني وتغيير قواعد اللعبة بحرفها عن منظومة المواجهة.
نحن في "كيكار رابين" ليس لتأبينه، ولا للمشاركة في جنازة بيرس. نحن هناك للتظاهر ضد المشروع الصهيوني برمته. ونعم التظاهر في تل أبيب ليس مناقضا لحمل مشروع سياسي مواجه للصهيونية. أولا، لأن المظاهرة ليست مشروع المواجهة ولا هي تختصره، بل هي خطوة احتجاجية فيه، وهي حتى ليست الخطوة الأهم. ثانيا، لأن رمزيتها هناك وما تحمله من "سقف المواطنة"، تستطيع أن تعني مواجهة مع هذه الرمزية، بقدر ما تستطيع أن تعني خضوعا لهذه الرمزية؛ القضية بأي خطاب وبأي مشروع سياسي أنت تواجه، ما منطق النضال الذي تحمله، ماذا ستقول هناك، وهل أنت تواجه "الفاشية" أم مشروعا حدوده أوسع بكثير، ساهمت "القوى الديمقراطية" فيه وبإنتاج مآسيه بأقدار متفاوتة.
وهذه هي القضية: هي أن يكون القانون نقطة تحول في اتجاه إدراكنا أنه لا مجال لكي نكون حقيقة ضد القانون دون أن نكون ضد المشروع الصهيوني برمته. ومن لا يرى العلاقة، يستطيع فعلا أن يكتفي بمظاهرة الإسرائيليين ضد القانون.
هناك، علينا أن نعود ونطرح اجتهاداتنا المختلفة أمام شعبنا، في ساحاتنا نحن، وألا يكون هم كل حزب منا هو فقط أن "يقنع كوادره"، بل أن يرى الحاجة لنقطة تحول إستراتيجية تتطلب خطابا/ مشروعا جامعا.
ولكي يحدث ذلك، بعيدا عن أجواء المناكفات، علينا أن نقر ضرورة إجراء نقاش معمق داخل المتابعة، بشفافية كاملة، وبالانفتاح الكامل على كافة النشاطات السياسية والثقافية والأكاديميين والصحافيين، وقد كان لهم مؤخرا مساهمتهم التي لا يستطيع أحد إنكارها أو القفز عنها.
هذا النقاش المنفتح والجذري، والقناعة بأن القاسم المشترك الأدنى، بصيغته الحالية لم يعد يكفي هو المتغير الضروري لنبني للمتابعة مكانتها وهيبتها ومصداقيتها، والتي تمر فقط عبر إعادة بناء علاقتنا مع شعبنا. ذلك أيضا، ما سيبني اللحمة بين نضالنا الوطني في الداخل والنضال الفلسطيني العام، الأمر الذي يؤكد أننا بصدد مشروع تحرر أصحاب الوطن مقابل مشروع محو وتطهير.
في السياق ذاته، يأخذ مشروع المواطنة معناه، كمشروع تتحكم في معناه وليس كواقع مفروض عليك. أي أن المواطنة كمفهوم، موجودة ضمن محور واسع يبدأ بالتدجين وينتهي بالمواجهة مع الصهيونية. "مشروع المواطنة" الذي نقصده، هو مشروع تحرري، هنا قوته، وهنا إبداعه، وهنا الخطر الذي يشكله، والذي جعل وما زال، المؤسسة الإسرائيلية تقف على أرجلها لمعرفة كيفية "معالجته"، كما لم تقف مع الكثير من الاجتهادات السياسية الأخرى.
وهذا هو الوقت لكي نعيد لهذا المشروع صلته بمواجهة الصهيونية، وهذا هو الوقت لكي يقف هذا المشروع مرة أخرى كالمشروع السياسي الوحيد الذي يعيد المواطنة إلى سياق إعادة إنتاج نضالنا كجزء من نضال فلسطيني تحرري. المواطنة هنا هي ليست مواطنة تطبيعية، بالعكس تماما، هي المواطنة الوحيدة الممكنة المتحدية. أما من لديه مشروع تحرري من خارج مفهوم المواطنة تماما، فليكشفه لنا، فأنا حتى الآن لم أسمع به.
مرة أخرى، هذا ما عليه أن يكون في مركز النقاش والمكاشفة الداخلية، هذا إذا أردنا أن نتقدم، وهنا هذه هي المناسبة، لكي نعترف أن اختلافاتنا على ذلك، كانت السبب أصلا في التلعثم وفي الردود البطيئة وفي الردود الباهتة، التي ستدفع جميع التيارات السياسية الرئيسية ثمنها.
وفي ما يتعلق بالنقاش حول مظاهرة يوم السبت تحديدا، فعلينا التأكيد ربما، أن لا حدث يحمل أي معنى، سوى ذلك الذي تبنيه وتراكمه ضمن سياق معطى. وأنه لا يستطيع أي حدث لوحده، أن يبني ويتحكم لوحده بالمعنى وبالنتيجة وبالاتجاه. حتى الثورات الكبيرة، علينا ألا نراها كعمليات تغيير، بل كبدايات تغيير، لا نتحكم بما يحدث بعدها، إلا إذا أعدنا إنتاجها وثبتناها في كل ما يحدث بعدها. هذا لا يمنع أنه للأحداث أيضا ديناميكيات متدحرجة يصعب أحيانا تفاديها.
نحن مختلفون داخل المتابعة، إبراز الاختلاف ليس "مزايدة"، ولماذا تكون مزايدة؟ المفروض أن لا أحد يحمل قناعاته بخجل، وإن خجل منها ولا يريدها أن تنكشف للناس، فليعيد النظر بها.
الاختلافات بين الأحزاب ضرورة سياسية من الدرجة الأولى، بل إنه لا يمكن فهم السياسية خارج هذه الضرورة، لا سياسة أصلا دون إبراز ونقاش الطروحات المختلفة والمفاضلة بينها. إبراز الاختلاف هو ما يعطي إمكانية للرأي العام، الذي هو طاقاتك النضالية وهدف أي مشروع تحمله، إلى إلقاء ثقله، كما أن في ذلك تسييس للنقاش وتحفيز للتغيير، وانعتاق من المراوحة في المكان، وحماية من الفضفضة والضبابية التي تشل. كما لا تفهم السياسية دون مفاضلات بين الاجتهادات المختلفة، ودون دفع ثمن جماهيري لها، بغض النظر عن "صوابها".
نحن مختلفون إذا ما كنا نريد لنشاطاتنا أن تكون "احتجاجا" ضد "فاشية" أو "يمين فاشي" أو "لعدم تقوية نتانياهو"، أم أننا نريد ونحتاج إعادة بناء لمشروع سياسي شامل وجامع للفلسطينيين، حيث أننا لسنا مقابل قانون بل مقابل "مشروع استعماري صب في قانون"، لا يقابل سوى بمشروع مناهض.
نحن مختلفون... هنالك من يعلق على استعمال كلمة "إسرائيل"، ويعتقد بشدة أن لا إسرائيل واحدة، بل عدة "إسرائيليات"، أي أننا لسنا أصلا أمام مشروع مركزي علينا التصدي له... بل يمين، هو ما علينا التصدي له، والباقي نبني معه تحالفات تكتيكية، ولا "إستراتيجيات" أكبر من ذلك، وفق اجتهاداته.
نحن مختلفون حول معنى مشاركتنا في الكنيست، وحول مدى استقلاليتنا عن غضب الشارع الإسرائيلي، وحول مقاطعة جلسات الكنيست.
لكن، هنالك من يكتفي بالاتفاق ويراها "تعددية سياسية"، وهناك من يرى في هذه الاختلافات اختلافات تضرب الوحدة دون أن تثمر تعددية حقيقية. فليس الاختلافات جميعها تستحق صفة "التعددية".
لكن مرة أخرى، نحن نحتاج للوحدة وللعمل الجماعي، لكي نخوض تلك النقاشات، بنضوج وبتضحيات، وبتغليب الوطني على الفئوي. هذا هو تحدي الساعة: العمل الجماعي والقدرة على العمل معا دون تورية النقاش.