ثابت العمور
تزاحمت المبادرات في المشهد الفلسطيني للحد الذي بات المرء يجد صعوبة في عدها أو حصرها، وإذا ما تأملنا واعدنا البصر مرة تلو أخرى سنجد وكأن المبادرات قدرنا رغم التحفظ على مصطلح المبادرة ودلالاته، لأنه هنا طرح ليشبه التضليل، إن الأمر أشبه وأقرب بالاملاءات منه للمبادرات، إن علاقتنا بالمبادرات قديمة قدم القضية الفلسطينية، بل إن القضية نفسها ولدت وتكونت بناء على مبادرة بدأت من تيودور هرتزل وجابوتنكسي والانتداب بدا كمبادرة وانتهى بمبادرة بلفور.
بل إن محاربة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهته والتصدي له كانت عبارة عن مبادرة عربية اقرب منها لخطة وإستراتيجية عسكرية بدليل ما أفضت إليه والمحصلة دوما بالنتائج، إخراج الناس شعب فلسطين من بيوتهم وأراضيهم الذين سيصبحون لاحقا لاجئين بالملايين في جزء من هذا التكتيك كان مبادرة عربية من اجل إفراغ الأرض لحرق الاحتلال ولتأمين حياة الناس من قذائف الحرب ونيرانه، قيام منظمة التحرير الفلسطينية كان وفق مبادرة، شرعنة الشقيري كان مبادرة من بعض الأنظمة العربية. كل النهايات بدأت بمبادرة.!
المفارقة أن لكل مبادرة تبعاتها وما بعدها وكل مبادرة أفضت لتآكل أكبر وأكثر في القضية الفلسطينية سنصل القرن الحادي والعشرين على وقع مبادرات تمنعنا من مقاومة الاحتلال وتساومنا على سلاحنا وسنصل لمبادرات تبتزنا وتطلب منا دفع ثمن سياسي مقابل أن نعيش ويتدحرج الأمر حتى نجد مبادرات تجعل قضيتنا قضية إنسانية بحتة وليست قضية احتلال. ستعرض مبادرات تقزم نضالنا وتضحياتنا، فإن قبلناها ضعنا واضعنا حقنا، وان اعتصمنا بحقنا تكالبت علينا الدنيا، وما بين هذا وذاك سنبقى واقفين في وجه الريح حتى يأتي من أبناء جلدتنا من يقبل بأقل مما عرض علينا وعارضناه أو رفضناه.
حتى لا يكون الكلام مسترسلا أو فيه تجنٍ أو جلد للذات سأستحضر بعضا أو عينة فقط لبعض المبادرات والمؤامرات وما أفضت إليه وكيف تهاوت صلابتنا علنا نتعلم من التاريخ إذا لم نتعلم من الحاضر، من أريحا وفي العام 1965وقبل احتلال أراضي العام 67 لم تكن حدود أو خطوط العام 67 قد خلقت بعد، جاء الرئيس التونسي الأسبق بورقيبة وقدم مبادرة من ارض فلسطين وعلى أقدم بقعة في الأرض أريحا وقال هناك شعبان ويجب ان يكون لهما حل، وقدم مبادرة أساسها القرار 181 أي قرار التقسيم والذي يعطي للشعب الفلسطيني 46 % من ارض فلسطين. قامت الدنيا ولم تقعد وتهللت الحناجر والمنابر وصرخنا وبعد عامين استفقنا على ضياع وسقوط باقي الاراض الفلسطينية سقطت غزة والقدس والضفة وسيناء والجولان لم يعد لمبادرة بروقيبة موضع ولم يعد ممكنا طرحها تدحرج الأمر وبعد ثلاثة عقود أو أكثر سنقول أننا لا نمانع من قبول دولة على حدود العام 67 دون الاقتراب من قرار التقسيم حتى.
قبل ان يمضي عقد كدورة طبيعة للزمن وفي نفس الجيل وبعد سبع سنوات بالتمام سيقدم السادات هو الآخر مبادرة في العام 1977 تقول بقبول دولة فلسطينية على حدود العام 67، سيرفضها العرب وترفضها المنظمة وستقطع العلاقة مع مصر ستقوم الدنيا العربية ولن تقعد ستنتج مبادرة السادات أزمة كبيرة تقطع أوصال العرب وتشتتهم سيفتح مزاد المعايرات، كان السادات يريد الذهاب للتسوية ويريد اصطحاب الفلسطينيين معه لكنهم رفضوا، وهذا حقهم وعندما رفضوا تم تعييرهم وشيطنتهم، أنا هنا لا أؤيد ذهاب السادات ولا أدافع عنه والأمر مضى ومر ولا جدوى من العصف الذهني ومن جلد الذات.
أربع سنوات أخرى فقط؛ بدأ الأمر أكثر سرعة وأكثر تدحرجاً ستقدم عاصمة الإسلام السعودية في العام 1981 مبادرة سلام أو مبادرة الأمير فهد التي تقول بأقل ما قاله السادات تقول بحدود العام 1967 نعم لكنها قالت، ولأول مرة مررت اختراقاً في قضية اللاجئين بان من لا يريد العودة من اللاجئين يمكن ان يدفع له تعويض، مرت مبادرة فهد بهدوء ولم يجعجع العرب عليها كما فعلوا مع السادات مثلا، لا علاقة هنا للموقف من السادات مقارنة بفهد لكن ما حدث ان عملية ترويض حدثت بدأ الأمر يشهد اختراق تونس ثم مصر ثم السعودية بدأ اختراق إسرائيل يمر ويتحقق، المهم ولأن كل مبادرة يجب ان ينتج عنها نتائج تضيق على الفلسطينيين بعد عام واحد قامت إسرائيل في العام التالي سنة 82 باجتياح لبنان واستباحتها ومحاصرة منظمة التحرير وإخراجها وقواتها إلى تونس.
لكن قبل أن يمضي عقد من الزمن سيذهب الفلسطينيون ممثلين بمنظمة التحرير إلى ابعد مما ذهب بورقيبة والسادات وابعد مما قال به وتحدث عنه الأمير فهد، سنذهب لأوسلو وسنقبل بغزة أريحا أولا. سنقبل بمبادرة سلام أمريكية على المقاس الإسرائيلي. سنقاتل ونقتتل من اجلها واجل امتيازاتها، وعندما استفقنا على هول نفق اوسلو وقررنا الخروج عن الطوع وخضنا انتفاضة الأقصى العام 2000 حوصر ياسر عرفات في المقاطعة واستبيح المسجد الأقصى واستبيحت الضفة واجتيحت غزة، وعندما أعلن عن موت أوسلو تقدمت السعودية ومن سيدة العواصم بيروت بمبادرة سلام في القمة العربية العام 2002، ورفضها الاحتلال الإسرائيلي لكنها بقيت الخيار العربي الوحيد، وعندما رفضتها المقاومة ورفضت التعامل او التعاطي معها غضبت منا السعودية وتمت شيطنتنا. وخرجنا من الانتفاضة الى الحصار ثم الحرب الاولى والثانية والثالثة وكل ذلك كوننا رفضنا بحث مبادرة السلام العربية، وجزء مما يحدث الآن ونتعرض له هو رفع تكلفة رفضنا.
اليوم وعلى وقع مسيرات العودة وحالة الاشتباك الشعبي، تقدم المبادرة تلو الاخرى، كلما اشتبكنا مع اسرائيل ورفعنا تكلفة الاحتلال تهل المبادرات وتهطل. وكأن العامل المشترك هو المبادرات. الآن بتنا أمام مبادرات جديدة محلية بلون فلسطيني بمعنى انتقلنا من المبادرات العربية الرسمية إلى المبادرات الشخصية، مبادرة الرئيس عباس لإنهاء الانقسام الهدف منها الانتقال للمفاوضات. مبادرة للعمادي مبادرة لكوشنير، مبادرة لجيمي كارتر وغيرها كلما مر ما او زارنا زائر قدم مبادرة وأدلى بدلوه وأخرها مبادرة مجلي القائلة بحل الأجنحة العسكرية...!
جزء أساسي من المبادرات المقدمة هي بالونات اختبار. الموقف منها والتعاطي معها يفضي لاحقا لصياغة مبادرة حقيقية مكتملة الأركان. المفارقة أننا كفلسطينيين نرفض هذه المبادرات ثم تحدث متغيرات إقليمية وفلسطينية تجبرنا على قبول هذه المبادرات والاستجابة لها فترد إسرائيل بالعناد وبخفض سقف المبادرة فنرد نحن بمزيد من التنازلات هذه صيرورة ومسار منحنى كل المبادرات التي قدمت على مدار تاريخ القضية الفلسطينية. كل المبادرات تنتقص من الأرض ومن الحق الفلسطيني.
في زمن المبادرات هاته فإن المطلوب وضع إطار فكري ووطني وإجماع الكل على ما الذي يمكن القبول به والموافقة عليه من هذه المبادرات وعدم السماح لأي طرف فلسطيني بالتفرد في الاستجابة أو التعاطي مع هذه المبادرات.