بقلم د. وليد القططي
أنهت (لجنة غزة) المكوّنة من أعضاء في اللجنة التنفيذية للمنظمة أعمالها وقدمت تقريرها وتوصياتها للسيد الرئيس، وفي مقدمتها وضع حلول عملية لمشاكل غزة الناجمة عن الانقسام أولها إعادة رواتب موظفي السلطة في غزة حسب تسريبات حصلت عليها بعض وكالات الأخبار، كما أوصت بإنهاء الانقسام المزمن، وتمكين الحكومة شبه المُحال، وإجراء الانتخابات التي أصبحت رابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي. ودعت اللجنة إلى تعزيز الشراكة السياسية المفقودة، وتقوية الجبهة الداخلية المفككة، وتحقيق الوحدة الوطنية الضائعة... بعد هذه الأخبار المُبشّرة والأنباء السارة جاء الخبر اليقين والنبأ الحزين عبر رسائل البنوك الصادمة لتتبعها أجهزة الصراف الآلي مُخرجة لسانها هازئة ساخرة بالموظفين لتردهم إلى الحقيقة المُرة والواقع الأليم ولتخرجهم من الشك إلى اليقين ومن الظن إلى النبأ المُبين.
حديث لجان الرواتب وآخرها لجنة غزة الحقيقي والواقعي واليقيني هو ما حدثت به البنوك لا ما حدّثت به جوقة القطط السمان المترفين في نعيم السلطة، فالبنوك أصدق إنباءً من الكتب خاصة إذا كانت صادرة من مُدمني الخداع والدجل وأرباب السوابق في التضليل والختل. والحقيقة أن تشكيل اللجنة الأخيرة – إن كانت موجودة فعلاً- لم تخرج عما سبقها من لجان تم تشكيلها بعد آخر اتفاق للمصالحة في أكتوبر الماضي والتي شكلتها المنظمة أو السلطة أو فتح وغيرها بغض النظر عن فوضى الصلاحيات وتداخل الاختصاصات وخربطة المهمات ولخبطة الوظائف بين المؤسسات الثلاث كان هدفها جميعاً تمويت قضية الخصومات المستقطعة من رواتب موظفي السلطة في غزة فضلاً عن عدم بحث قضايا موظفي سلطة غزة والموظفين المفصولين وتوّقف توظيف الخريجين الجدد منذ أحد عشر عاماً والإجراءات العقابية الأخرى المفروضة على غزة عملاً بالمقولة الذهبية «إذا أردت لموضوع أن يموت شكّل له لجنة».
تمويت القضايا أو ترحيلها إلى الزمن القادم المجهول عن طريق تشكيل اللجان ديدن الأنظمة السياسية الاستبدادية والفاسدة كآلية عفنة للروتين الحكومي والفساد الإداري للتغطية على انعدام الإرادة السياسية للنخبة الحاكمة المحتكرة للسلطة والثروة في الإصلاح الحقيقي الذي يُهدد مصالحها وامتيازاتها. فإذا ما وقعت كارثة ما، أو تم اكتشاف خطأ لا يمكن إخفاؤه، أو عُرفت جريمة من الصعب سترها أسرعت الوزارة أو المؤسسة المختصة إلى تشكيل لجنة لبحث الأمر، وسرعان ما تُشكّل اللجنة الرئيسية لجنة فرعية متخصصة منبثقة عنها، وهذه بدورها تُشكّل لجنة فرعية فنية أو أكثر للتمحيص في الموضوع... لتبدأ سلسلة تقديم التقارير من اللجان الأدنى إلى الأعلى وصولاً إلى اللجنة الرئيسية فالوزارة التي تُشكّل لجنة أخرى تبحث في كيفية تطبيق قرارات وتوصيات اللجان المختلفة لتأخذ طريقها في نهاية المطاف إلى غياهب النسيان في الأرشيف بعد أن يكون قد مات أحد الثلاثة: الملك أو جحا أو الحمار حسب قصة جحا وحماره.
هذه الصورة البائسة للفساد الإداري والبيروقراطية الجامدة قدمها الأدب الروائي وجسدّها الفن السينمائي في أعمال عديدة تنتقد الواقع السياسي والاجتماعي في المجتمعات التي تحكمها أنظمة سياسية الاستبداد والفساد جوهرا طبيعتها البنيوية، ومن هذه الأعمال رواية (أرض النفاق) للأديب المصري الكبير يوسف السباعي التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم. وفي أحد فصول الرواية ومشاهد الفيلم حوار بين المدير العام ورئيس أحد الأقسام في مؤسسة حكومية اكتشف رئيس القسم أن شنكل الشباك مفقود في غرفته فشكّل لجنة لبحث الموضوع ومعرفة سبب عدم وجود الشنكل مكانه، واللجنة الرئيسية شكلّت لجنة فرعية، واللجنة الفرعية شكلّت لجنة داخلية أوصت برفع قضية ضد المقاول الذي لم يُركّب الشنكل... لتصل تكاليف اللجان والقضية إلى أربعمائة جنيه مصري في حين أن ثمن شنكل الشباك المفقود (44) مليماً.
بقى أن نعرف بالنسبة لتشكيل اللجان في العالم المُسمّى تأدباً بالنامي ولم يصل بعد إلى مصافِ الحضارة المعاصرة أن تشكيلها لا يبعد كثيراً عن الآلية النفسية الدفاعية التي يبتعد فيها الشخص عن مصادر الضغط والمواجهة الفعلية فيُظهر سلوكاً ويُبطن نقيضه كالإسراف في أدلة التأكيد والجزم غطاءً للخداع والتضليل، وتكرار صيغ القسم والحلف لإبعاد تهمة الكذب والإفك، والمبالغة في سلوك الثقة بالنفس والغرور إخفاءً للشعور بالنقص والدونية، والغلو في كلمات الحب والود إضماراً لمشاعر الكراهية والحقد، والإفراط في مظاهر التدين والورع حجاباً لغياب التقوى وخشية الله... وعلى المستوى الجماعي أليس هذا ما يحدث في الدول الأكثر فساداً التي تُشكّل لجان مكافحة الفساد، والأكثر قمعاً للحريات التي تُشكّل لجان الحريات العامة، والأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان التي تُشكّل لجان حقوق الإنسان... أليس هذا ما يحدث عندنا مع لجان الرواتب التي تمضي إلى طريقها واحدة تلو الأخرى وتبقى خصومات الرواتب كما هي تشتكي إلى الله ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على إخواننا.