عيسى قراقع ليل ثلاجات الموتى ليس كأي ليل، بارد متجمد، مخنوق الأنفاس، لا سماء ولا هواء، لا زائرين، هو الصقيع الأشدّ من الموت، وهو السجن الأكثر قسوة من السجن، ولازالت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تتلذذ بعقاب الموتى الفلسطينيين،
يدعون تارة إلى رميهم في البحر، وتارة إلى تنجيسهم بجلود الخنازير، لا يتصوروهم موجودين حتى لو جثثاً، هي دعوة إلى الفناء وإلى ما فوق الإعدام.
لازال ستة شهداء فلسطينيين محتجزين في ثلاجات الموتى في دولة إسرائيل، وكان العدد أكثر من ذلك، حيث دفن عدد منهم في ما يسمى مقابر الأرقام العسكرية، وحسب الأسطورة التلمودية فإن أرواح الفلسطينيين تبقى حيّة، وهذا ما يخشاه الإسرائيليون من قيامها وعودتها، وهذا ما يجعلهم يجمدون أجسامهم أو يتركونها فريسة للحيوانات الضارية في مقابر الأرقام.
الإحصائيات الفلسطينية تشير أيضاً إلى استمرار احتجاز 252 شهيداً فلسطينياً في مقابر الأرقام السرية منذ عام 1967، ترفض حكومة الاحتلال تسليمهم لذويهم، ممنوع أن يكون لهم اسم أو قبر أو جنازة لائقة، لا كرامة للميت الفلسطيني، ولا اعتبار للقوانين الدولية والإنسانية ولكرامة الإنسان حياً وميتاً.
الشهداء الستة في الثلاجات الإسرائيلة لا زالت المحكمة العليا والنيابة الإسرائيلة تماطل في الإفراج عنهم، خائفون من نهوض الشهداء من جنازاتهم الشعبية وانتفاضة الدم المستباح، وخائفون من الرمزية والتقدير العالي للشهيد الفلسطيني الذي قاوم الاحتلال وشرعية هذه المقاومة، رداً على محاولات إسرائيل تجريم كل من قاوم الاحتلال سواء كان شهيداً ام أسيراً.
حكومة الاحتلال الإسرائيلي وبطريقة غير أخلاقية تريد إخضاع الجثامين المحتجزة للمساومة والمقايضة تحت ادعاء أن احتجازهم سوف يحسن شروط التفاوض حول أية صفقة تبادل مع الفلسطينيين، حشروا الروح والدم والمعنى، ولا زالوا يمارسون القتل ويغلقون أبواب الثلاجات وأبواب السجون.
المحللون القانونيون يعرفون تماماً أن هؤلاء الشهداء ارتكبت بحقهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لقد جرى إعدامهم ميدانياً وتعسفياً، قتلوا بدم بارد، ولا تريد حكومة الاحتلال أن يبقى هناك دليلاً أو أثراً لهذه الجرائم، لهذا يذوب الشهداء في الثلج أو التراب طويلاً طويلاً، لا تشريح ولا تقارير عن أسباب الوفاة، وإن كانت جنازة فلتكن محدودة وفي العتمة بعيداً عن ضوء الشمس والحقيقة.
الدراسات والأبحاث كشفت عن تجارة إسرائيلية بأعضاء الشهداء، ينتزعون جلودهم وقرنياتهم لصالح جنودهم الجرحى والمرضى أو يتاجرون بها عبر الكون، فالشهيد يقتل ألف مرة ويعذب في أكثر من مرحلة، هي عصابات لقراصنة يمارسون بطولاتهم على أجساد الشهداء، ويستمتعون بتعذيب أهاليهم المفجوعين.
سمعت الشهداء الستة في ثلاجة الموتى يتحدثون ويدقون على الأبواب: أحمد عطا، عادل عنكوش، براء عطا، فادي قنبر، مصباح أبو صبيح، نمر الجمل، وقد ودّعوا أربعة من زملائهم اقتادوهم إلى مقابر الأرقام بقرار إسرائيلي، يشر من أجسامهم الماء، الجروح مفتوحة، الدماء لم تتجمد لا زالت تسيل.
حديث الشهداء في ليل الموت الإسرائيلي يكشف حنينهم وشوقهم لقبر تزرع حوله الأزهار والأشجار الخضراء، يتذكرون الصلاة في المسجد الأقصى المحاصر بالبوابات والكاميرات والمستوطنين، تستفزهم الحواجز المسلحة وضياع المكان وصمت العالمين، يصرخون وينفجرون يطلبون الحياة.
سمعتهم يتحدثون عن الإرهاب اليهودي المنظم المدعوم رسمياً من حكومة الاحتلال، منظمات وجمعيات متطرفة تقتل وتحرق وتخطف وتعربد وتلاقي الحماية والدعم من قبل الحكومة الإسرائيلية، يعتبرون القاتل اليهودي بطلاً قومياً، يقيمون له نصب تذكاري ليتحول إلى مقام للحجيج في الوقت الذي هدموا فيه نصب الشهيد خالد نزال، واعتقلوا الشهداء الفلسطينين بعيداً بعيداً في الغياب.
سمعت الشهداء في ثلاجة الموتى يتحدثون عن عمليات القتل غير القانونية التي توثقها أجسادهم، وعن شرعية القتل العمد وبدم بارد التي أصبحت نهجاً روتينياً لقوات الاحتلال، متسائلين عن صوت آخر يوقف هذا الخطاب الحماسي الإسرائيلي الداعم والمشجع للقتل وسفك الدماء وإعدامات الشوارع.
سمعت الشهداء في ثلاجة الموتى يتحدثون عن العديد من زملائهم الشهداء الذين قتلوا بإصابات في الرأس، أو تركوا ينزفون دون إسعاف حتى الموت، وعن شهداء جرحى أطلقت عن رؤوسهم رصاصة التأكد من الموت، يقولون: من يفكر بمعاقبة وملاحقة هؤلاء المجرمين الإسرائيليين؟ من يهتم بعائلاتنا؟ من ينصف الضحايا ويوقف احتفال نتنياهو والمستوطنين بمرور خمسين عاماً على الاحتلال والاستيطان والقتل؟
كتب الشهيد المحتجز عبد الحميد ابو سرور رسالة الى امه قال فيها:
الليل لا يطول يا أمي
الليل في احتضار
وها أنا مدد
وكلي انتظار
عيني على الشباك
والقفل لا يدار
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله.