يوسف مكي
ليس هدف هذا المقال تقديم عرض للتغيرات التي حدثت في مسار الكفاح الفلسطيني، منذ تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، مع انطلاق حركة فتح، في منتصف الستينات من القرن المنصرم. فهذه التغيرات باتت واضحة للجميع، وقد تمت قراءتها ومناقشتها، في أحاديث كثيرة سابقة.
ما تهدف إليه هذه القراءة، هو وضع هذه التغيرات في سياق تاريخي وموضوعي، بما يمكّن من قراءة مسار الكفاح الفلسطيني بشكل صحيح. وأيضا بما يسعفنا مستقبلاً في تقديم قراءة استشرافية حول القضية الفلسطينية، ومآلاتها، وهي قضية ظلت ملازمة للنضال العربي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا.
وكمقدمة لازمة للدخول لوضع التغيرات التي حدثت في الكفاح الفلسطيني، الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية، منذ تأسيسها، وبشكل خاص، منذ باتت مظلة سياسية لحركات المقاومة الفلسطينية، لا بد من التعرض للبيئة التي انبثق النضال الفلسطيني في قلبها.
أول ما ينبغي التنبه له، هو أن الكفاح الفلسطيني، بقيادة منظمة التحرير، هو امتداد للسياسة العربية ، ولذلك فإن المنظمة تغير استراتيجياتها وأهدافها وفقاً للمواقف العربية السياسية السائدة تجاه الصراع العربي-«الإسرائيلي».
لقد ركزت أدبيات حركات التحرر على أهمية امتلاك قيادات حركات التحرر الوطني للقرار المستقل، وأن تكون حرة في رسم الاستراتيجيات التي تضمن تحقيق أهدافها. وإذا لم تستطع هذه الحركات توفير الحد المقبول من القدرة على التخطيط والعمل والمناورة بحرية، فإن فرصتها في تحقيق متطلبات التحرير تكون ضئيلة.
إن ذلك يعني، في أبسط أبجدياته، أن التجانس بين تطلعات الفلسطينيين والقادة العرب، ليس بالضرورة متجانساً دائما. فعلى سبيل المثال، أدت نتائج النكبة الفلسطينية عام 1948، كما أسلفنا في المقال السابق، إلى تقسيم فلسطين لثلاثة أجزاء. الجزء الرئيسي أقيمت عليه دويلة «إسرائيل»، والجزء الثاني يتشكل من الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقد ضم إلى الأردن. أما الجزء الثالث، وهو قطاع غزة فقد أصبح يدار من قبل الحكومة المصرية.
علاوة على ذلك، فإن تطور الصراع العربي-«الإسرائيلي» والنتائج التي تمخضت عنها حرب يونيو/ حزيران عام 1967، أضافا تعددا واختلافات في المصالح بين أنظمة المواجهة العربية، فيما يتعلق بالصراع مع «إسرائيل». فإثر نكسة 1967، أبدت «إسرائيل» استعدادها لإعادة الأراضي المصرية المحتلة، وتحديدا شبه جزيرة سيناء للسيادة المصرية إذا وافقت مصر على التوصل إلى معاهدة سلام معها واعترفت بمشروعية وجودها على الأرض الفلسطينية.
أما السياسة «الإسرائيلية» تجاه الأراضي السورية المحتلة، وبخاصة هضبة الجولان فكانت مختلفة تماما عن تلك التي تبنتها مع مصر. فمنذ احتلال مرتفعات الجولان عام 1967، استمرت الحكومات «الإسرائيلية» المختلفة في تمسكها بعدم التفاوض على مستقبل تلك المرتفعات، تحت ذريعة أهميتها الاستراتيجية في ضمان أمن «إسرائيل». وفي ديسمير/ كانون الأول عام 1981م أصدرت الحكومة «الإسرائيلية» قرار تطبيق قوانين الإدارة والقضاء «الإسرائيليين» على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وجرى تنفيذ ذلك القرار على الرغم من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 497 الصادر في 17 ديسمبر عام 1981 الذي طالب «إسرائيل» بإلغاء قرارها المذكور.
ومن المؤكد أن الموقف «الإسرائيلي» المتمسك بالاحتفاظ بمرتفعات الجولان، لم يترك لسوريا مبرراً للتفاوض مع «الإسرائيليين»، والسير على طريق التسوية السياسية.
ومنذ عام 1974، وافق القادة العرب بالإجماع على اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وقد عنى ذلك القرار، أن الأردن لم يعد يملك حق تمثيل الفلسطينيين في المطالبة بالضفة الغربية ومدينة القدس.
الموضوع الآخر المهم، أن أحد نتائج الهزيمة العربية عام 1948 بقاء جزء محدود من الفلسطينيين في الأراضي التي شكلت فيما بعد الكيان الصهيوني. أما الغالبية فقد طردوا من منازلهم ورحلوا إلى قطاع غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان، حيث انتهوا إلى العيش في مخيمات أقيمت خصيصاً لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين. وقد أدى تواجد الفلسطينيين في الشتات بالأقطار العربية إلى أن يصبحوا بالضرورة مرتبطين بالاتجاهات السياسية التي سادت في تلك الأقطار إثر النكبة الفلسطينية.
شارك الفلسطينيون بفعالية، حيثما تواجدوا بالأقطار العربية، في التأسيس والانضمام للأحزاب السياسية القومية، التي برزت في الخمسينات والستينات. والواقع أن كثيراً من قادة منظمة التحرير كانوا رواداً في الحركات السياسية التي سادت بالأقطار العربية. وقد حكمت هذه المشاركة مستقبل النضال الفلسطيني، وأثرت على الطريقة التي تشكل فيها البنيان السياسي والآيديولوجي للكفاح الفلسطيني.
وقد أثرت هذه العلاقة بشكل سلبي على الفلسطينيين مؤدية إلى اختراق تلك الحركات للنضال الفلسطيني وتعطيله. فمع غياب الاستراتيجية العربية العملية لتحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل العربي، غاب مشروع تحرير فلسطين.