د.مثنى عبدالله
في آذار/ مارس عام 1976 تجرأت سلطات الاحتلال الصهيوني على مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي المسجلة بأسماء مواطنين فلسطينيين، آلت إليهم ملكيتها من الآباء والأجداد على مر عقود من السنين. ولأن الأرض أحد أبرز العوامل المحورية في حياة الإنسان، فقد انتفض أهلنا في كل مدن فلسطين ضد هذا الإجراء التعسفي، وحصلت مواجهات مع قوات الاحتلال دفع فيها شعبنا العديد من الشهداء والجرحى والمعتقلين. وبات الثلاثين من مارس/آذار يوما في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، يعني المزيد من الإصرار على حق العودة والتشبث بالحق.
ولأن الذكرى الثانية والأربعين لهذه المناسبة تمر هذا العام والقضية المركزية تواجه محاولات عربية وإقليمية ودولية ليست في صالحها، ولأنها تتعرض لهجمة كبرى تستهدف تصفيتها فقد عزم الشباب والشيوخ والنساء والأطفال في كل مدن وحارات الوطن السليب على أشهار رفضهم لكل تلك المحاولات، من خلال مسيرة أطلق عليها اسم (مسيرة العودة الكبرى)، حيث نصبت الهيئة الوطنية لكسر الحصار خيام العودة على طول الحدود الشرقية مع إسرائيل، وعلى بعد مئات الأمتار من المواقع العسكرية الإسرائيلية، بينما في الجانب الآخر من الحدود نصبت قوات الاحتلال القناصة، واستعملت الطائرات بدون طيار، وواجهت المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع. ورغم أن أقرب نقطة للمتظاهرين من السياج الأمني الإسرائيلي كانت تبعد بحدود أربعمئة متر حتى وصل عدد الشهداء لحد كتابة هذا المقال إلى ما يقرب من عشرين شهيدا وأكثر من ألف وخمسمئة جريح، سقطوا جميعهم داخل الأراضي الفلسطينية في غزة وليس خلف الحدود من جهة الكيان الغاصب، مما يعني أن إسرائيل اتخذت قرارا مسبقا باستعمال العنف ضد التظاهرات السلمية.
وهو قرار معروفة دوافعه، لأن أكثر مايقلقها هو الحراك السلمي الذي تجد فيه تعرية تامة لها. وبذلك بررت هذا التحول من التعامل السلمي مع تظاهرات سلمية إلى تعامل عنفي، بمبررات معروفة ترددت على لسان كل المسؤولين الصهاينة في أكثر من مرة. فمرة يقولون إن بعض من سقطوا شهداء في التظاهرات كانوا من كتائب القسام، وهذا دليل على أن النية كانت مبيته لمهاجمة إسرائيل، على حد قولهم، وتارة يقولون إن بعض المتظاهرين كانوا يحملون الأسلحة، وأخرى يحاولون إلصاق التحرك ضد إسرائيل بمنظمة حماس. وهي كلها تبريرات زائفة وغير منطقية تماما.
فالحراك في (مسيرة العودة الكبرى) فعل اشتركت فيه جميع الأطراف الفلسطينية، ولم يقتصر على فئة أو فصيل أو تنظيم واحد. وإذا كانت غزة تحت سيطرة حماس ويمكن أن يتهمها العدو الصهيوني بأنها من تُحرك التظاهرات، فلماذا سقط عشرات الجرحى في الضفة الغربية إذن ؟ كما أن جميع الشهداء الذين سقطوا في المواجهة لم يكن أي منهم يحمل سلاحا بيده، ويمكن إثبات ذلك من خلال الكاميرات التي كانت تحملها مناطيد الجيش الإسرائيلي، إذا كانوا فعلا صادقين فيما يقولون.
لقد راهن العدو الصهيوني على الزمن ظنا منه أن ينسى أصحاب الأرض الشرعيين أرضهم بموت الشيوخ منهم. وراهن على الشباب من الأجيال الفلسطينية الجديدة، متوهما أنهم سيولدون بدون عقدة الأرض السليبة، وعقيدة الوطن الذي لابد أن يعود إليهم. لكن شعبنا وفي كل يوم يؤكد للمحتلين بأنهم واهمون في كل تصوراتهم وفاشلون في كل رهاناتهم. وهاهم يرون بعد أربعة عقود من حادثة يوم الأرض هذه الحشود المؤلفة تطالب بعودة أراضيهم وعودتهم إليها. كما ظن العدو بأن الانتقالة الأمريكية من موقع المنحاز إلى أسرائيل، إلى موقع المتبني لكل السياسات الإسرائيلية، سيعني أنبطاح شعبنا وقبوله ما يسمى الأمر الواقع، فراح يعزز من سياساته العدوانية ويمارس أقصى أنواع العنف، مستبقا تحضيرات انتقال السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، كي يكون تحذيرا استباقيا لأهلنا في فلسطين، أن لا تحاولوا فعل شيء تجاه الخطوة اللاحقة. لكن غاب عن ذهن الإسرائيليين بأن أنسداد أفق أي حل سياسي بينهم وبين أصحاب القضية، سيعني عودة أهلنا إلى خيارات أخرى على طريق النضال الوطني. ولن يعني ذلك مطلقا استسلامهم وركوعهم أمام الضغوطات الدولية. فالعامل الدولي لم يكن في يوم من الأيام في صالح القضية الفلسطينية، وكان في أقسى ظروف القتل والدمار التي تعرض لها شعبنا، لم نسمع منه سوى الشجب والاستنكار والإدانة، في الوقت نفسه الذي يؤكد فيه على حق الصهاينة في العيش الآمن.
وحتى في هذه المجزرة الأخيرة لم نجد سوى الاستنكار من الأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، بينما قامت الولايات المتحدة بحجب بيان مجلس الأمن الدولي، الذي طالب بأجراء مجرد استجواب حول العنف الذي شهده قطاع غزة أثناء المسيرة، في وقت وصف فيه وزير الدفاع الإسرائيلي الاستجواب خطوة حمقاء ومنافقة. وهي موازنة غير عادلة تماما تضع الجلاد والضحية في الموقف نفسه.
كما أن طريق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لم يجلب أي منفعة، كما لم يدفع أي ضرر عن شعبنا، وعلى جميع من أكدوا مرارا وتكرارا على أن التفاوض خيار ستراتيجي العودة عن هذه الكذبة الكبرى.
يقينا أن معادلة الأمن الإسرائيلية، ومحاولات فصل مصير غزة عن الضفة الغربية والقدس، والاستهانة الأمريكية بالمقدسات، ستجعل إرادة شعبنا في فلسطين تبدو بمثابة كرة نار قد تتدحرج وربما تشعل المنطقة، وتعيد خلط كل الأوراق من جديد، على عكس ما يخطط له البعض ويتمناه آخرون. وإذا كان النظام الرسمي العربي يعتقد بأن الدفع بالوفود الرسمية والشعبية لزيارة إسرائيل، والمفاوضات العلنية والسرية معها، وفتح المجال الجوي العربي أمام خطوط الطيران المتجه إلى إسرائيل، ودفع مئات المليارات من الدولارات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، سيسهم في تصفية القضية الفلسطينية، فإن ذلك لن يزيد أهلنا إلا إصرارا وتحديا. فعلى مدى عقود كانت إسرائيل تحتفظ بعلاقات جيدة مع القادة العرب، لكنها فشلت في وأد النظرة الكارهة لها لدى الشعب العربي.
لقد عرف أهلنا في فلسطين أنهم وحدهم من يخلقون الأحداث، وهم وحدهم من يتركون بصماتهم عليها، لأن نفوسهم وعقولهم تحمل هم الشعب والوطن والأمة. أما من يبحثون عن الحلول الترقيعية في البيت الأبيض وفي تل ابيب، من فوق الطاولة أو من تحتها، بوفود رسمية أو شعبية، سيمضون إلى نهاياتهم دون أن يتركوا أثرا وغير ماسوف عليهم.