داخل ثلاجة الموتى في قطاع غزة رأيت أجساداً مزقتها القنابل المحرمة دولياً أسقطتها الطائرات الإسرائيلية على السكان المدنيين، أجساد محروقة ومهشمة وناقصة، لا أقدام ولا رؤوس ولا أيدي، أعين محفورة بالبارود والرصاص، أشلاء مبعثرة تتكدس على بوابات القيامة، تنتفض موتاً كأنها لا تريد أن تموت.
غزة التي بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، بمساحتها الضيقة الممتدة كشريط على البحر المتوسط، وبكثافة سكانها وفقراءها وبؤس شوارعها وتزاحم ثماني مخيمات فيها، تحولت إلى ثلاجة كبيرة للموتى الذين يسقطون كل لحظة على يد آلة الموت الإسرائيلي في هذا العدوان الوحشي الذي جعل الحياة في غزة هي الموت.
داخل ثلاجة الموتى في غزة شاهدت أربعة أطفال اصطادتهم الصواريخ الإسرائيلية وهم يلهون على الشاطئ ويلعبون هاربين إلى الماء من النار لإطفاء حرائق الإبادة في أحلامهم وطفولتهم، فلم ينقذهم البحر واستغاثات البراءة، ولا وجود المراسلين الصحفيين وعين الكاميرا التي فقئت وصدمت وهي تسمع حتى بكاء الحوت في عمق البحر أسود أسود لم ينقذه اسمه ولا حركة الأمواج، تساءل البحر أين العين الكونية؟
داخل ثلاجة الموتى في غزة شاهدت المئات من الشهداء غارقين في صمتهم الأبدي، وتصدر عنهم إشارات زمانية ومكانية، بعضها قادم من ساعة السحور وعند الفجر وخلال قراءة القرآن، وبعضها في الطريق المليء بالركام من الشارع إلى البيت تحمل كيساً من الخبز وقنينة ماء، وبعضها خلال النعاس المتوتر ظلت نائمة بأحلامها تحت سقف البيت الذي انهار، وإشارات أخرى جاءت خلال تناول طعام الإفطار عندما بعثرت القنابل العائلة وسقط ذلك المسجد على المصلين في ركعتهم الثالثة ونزفوا فوق سجادة الصلاة.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة تصاعد عدد الشهداء ولم يعد هناك متسعاً، جاءوا من المستشفيات المقصوفة، ومن المدارس ومؤسسات المعاقين، وجاؤوا من المزارع والحقول المكشوفة، وجاؤوا من الحارات والأزقة، وجاؤوا من رياض الأطفال مع معلماتهم، آباء وأمهات، أطفال صغار، صبايا بعمر الورد، كبار في السن، صيادون بلا سمك، لا ينقصهم سوى أجسادهم ومديح الموت وأمتعة الرحلة.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة شاهدت عائلات حمد والبطش وشعبان والنجار وبكر والمصري ومعمّر، وقد جمع شملهم الموت مرة واحدة بعد أن صار الموت والحياة سيان في غزة، قصف جوي وبحري وبري وحصار وجوع، وصوت الانفجارات يعلو على صوت الأذان في شهر رمضان، الغبار الساخن لا ينقشع من سماء غزة، والطيارون الإسرائيليون يرون في كل من يتحرك ويتنفس في غزة هدفاً، ولا يغادرون إلا بعد أن تصير غزة من تحتهم مقبرة.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة قرأت على جسد أحد الشهداء القاصرين لافتة تقول (أنا الشهيد اللي جاي)، بينما سألتني شهيدة أخرى عن ألعابها التي لم تستطع حملها معها بعد أن قصفوا البيت وقصفوها مع والدتها، لم أستطع أن أنظر إلى ذلك الطالب الذي نجح في امتحان التوجيهي فقتلته القنابل الإسرائيلية وهو عائد من المدرسة، لم يصل بيته ولم يصل ذلك الفرح.
الأغلبية من الشهداء في ثلاجة الموتى هم من اللاجئين، لجأوا بعد نكبة 1948 إلى مخيمات قطاع غزة بعد أن جرفتهم الحرب من قراهم وبيوتهم إلى هذا المكان، ولجأوا مرة ثانية لجوءاً داخلياً من المخيمات إلى مخيمات داخل مدارس ومباني الأونروا تجنباً للقصف الإسرائيلي، ولجأوا مرة ثالثة إلى الموت بعد أن عجزت الأمم المتحدة عن حماية حصانتها وعلمها وقراراتها الدولية والإنسانية، فكانت ثلاجة الموتى مخيمهم الأخير والأكثر هدوءاً.
داخل ثلاجة الموتى في غزة سمعت هتلر الجديد وهو يلبس قبعة حاخام يلقي فتاويه المقنبلة، يحلل الإبادة وحرق الآخرين، يقرأ أسفار التوراة باسم "رب الحرب" ويعطى تعليماته لجنوده بالالتزام بتنفيذ وصايا الإبادة، لا تتركوا مدينة ولا قرية ولا شجرة ولا طفلاً ولا امرأة، امسحوهم بحد السيف، هكذا قال "رب الجنود" في تل أبيب.
داخل ثلاجة الموتى في غزة سمعت الشهداء يتهامسون ويستفسرون عن أصدقاءهم وعائلاتهم وبيوتهم وحاجاتهم الصغيرة، وسمعت الشبان يسألون عن مواعيدهم التي لم تتحقق مع حبيباتهم بسبب الغارة ما بعد الألف على مواقع اللقاءات، تركوا وداعاً فاصلاً بين الصوت والصدى ووردة في العدم.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة سمعت نقاشاً حربياً وجدلاً حاداً بين قادة الحرب في "إسرائيل"، جميعهم يستعجلون في حرب برية طاحنة وحاسمة في قطاع غزة، ولكنهم حائرون حول الأسرع والأكثر فتكاً: الصاروخ أم الدبابة.
لوّح نتنياهو بيده اليسرى إلى جهة الجنوب مطالباً بمزيد من القتلى من أجل صورة النصر القادم، وبيده اليمنى إلى جهة الشمال مطالباً بمزيد من المستوطنات والمستوطنين والمعتقلين، هي نبوءة الوعد والمستحيل وإدارة النهار العابر من الخرافة إلى المعسكر في "دولة إسرائيل".
الهواء بارد ومنعش في ثلاجة الموتى في غزة، لم يبق أحد إلا وقد وصل، ويعتذر الموت من الموتى، يوعدهم أن يحمل أحلامهم وينقش حكايتهم وأسماءهم في الهواء، ويدفنهم في حفرة واسعة في السماء كثيفة الغيوم والقطن الأبيض بعد أن احترقت الأرض ودمرت القبور.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة ينتظر الشهداء اتفاقية الهدنة أو وقف إطلاق النار، يراقبون الاجتماعات المكثفة في القاهرة، التصريحات والتدخلات الدولية، ينتظرون أن تفتح عليهم أبواب الثلاجة ليخرجوا قليلاً حتى يكتملوا مع أعضاءهم الناقصة أو دمهم المسفوك في الركام، ومن أجل أن يودعوا سلام الموت في جنازة عندما غاب السلام في الحياة.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة شاهد الشهداء القادة والسياسيون على شاشات أرواحهم، يلبسون بدلات إيطالية وكرافات أنيقة، يحللون بهدوء أبعاد العدوان، الأجندة التي تقف خلف هذه الحرب، المواقف الإقليمية المتناقضة، ويندهش الموتى من القدرة على التحليل أكثر من القدرة على الحزن والبكاء والغضب.
أحد المسؤولين عقد مؤتمراً صحفياً من داخل ثلاجة الموتى موضحاً في إحصائية دقيقة عدد المباني التي دمرت وهدمت في قطاع غزة على يد جيش الاحتلال، وحجم الخسائر الاقتصادية والكوارث الاجتماعية الناتجة عن ذلك، وأمام صمت شهداء الثلاجة وتوالي الأرقام اختتم مؤتمره الصحفي مبشراً الشهداء بقصورٍ فاخرة في الجنة.
داخل ثلاجة الموتى في غزة سمعت من يقول أن العقل السياسي يرى في كل حرب مؤامرة وليس كارثة إنسانية، بينما العقل القانوني يفتش في كل حرب عن جريمة دولية هنا وهناك تتفق مع هذه المادة في المواثيق الدولية أو تلك، وفي الحالتين الموت هو الموت.
القاتل في أي حرب يرى النصر بكثرة عدد الضحايا الذين يسقطون، وبفداحة حجم الدمار الذي خلفته صواريخه وقنابله، بينما ترى الضحية النصر سرُّ في حياة أخرى متجدّدة لم ينتبه إليه أحد، ويبقى القاتل حارساً على الشبح والأبد.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة يتابع الشهداء الاقتراحات العديدة حول الحرب، ابتداءً من فتح معبر رفح وحتى الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، وقد طمأنهم أحد المتحدثين عن حياة الخلود وحسن العزاء، وأن الله سوف يسكنهم فسيح جناته مع الصديقين والأنبياء وحسن أولئك رفيقاً، ويتمنى إغلاق الثلاجة ووقف الحوار مع الميتين، فقد بلغت القلوب الحناجر.
داخل ثلاجة الموتى التي تسمى غزة، سمعت الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور يخاطب المجتمع الدولي بكافة مؤسساته ومواثيقه وقراراته قائلاً:
ويوم كبرت لم أصفح
حلفت بنومة الشهداء
بالجرح المشعشع فيّ
لن أصفح.....
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله