راسم عبيدات لم تكن عملية اقتحام شارون للمسجد الأقصى السبب في إندلاع الإنتفاضة الثانية، بل إن مجمل إجراءات وممارسات الإحتلال القمعية والإذلالية بحق الشعب الفلسطيني، في سياق سياسة صهيونية قمعية متصاعدة،
خلقت حالة من التراكمات الكمية التي أدت إلى تغير نوعي، في إطار عملية تطورية، لتكن تلك الإجراءات مع انسداد الأفق وفشل العملية السياسية، مهيئة وخالقة لأجواء قيام انتفاضة شعبية، ولتأتي عملية اقتحام شارون للمسجد الأقصى بحراسة جيشه وشرطته عاملاً مفجراً لها، فشارون نفسه استولى على بيت فلسطيني في البلدة القديمة من القدس، ولذلك لم يكتشف شارون فجأة أن هناك أسطورة صهيونية تلمودية اسمها "الهيكل" لكي يقدم على اقتحام الأقصى.
شارون واقتحامه للأقصى شكل العامل المفجر للإنتفاضة، تلك الإنتفاضة التي تميزت عن انتفاضة الحجر الأولى، بأن عمادها وسلاح مقاومتها للمحتل، لم يكن الحجر، فالإنتفاضة لم تعتمد على الكتلة البشرية الكبيرة ذات البعد الشمولي والإستمرارية، كما هو الحال في الإنتفاضة الأولى، بل جرت عسكرة الإنتفاضة وركزت على عمليات التخريب الشعبي واستخدام السلاح والعمليات الإستشهادية، وأيضاً لم يكن هناك هيئة أركان لهذه الإنتفاضة ولا قيادة موحدة، وغاب الهدف الواضح والمحدد عنها، كما غابت الرؤيا والإستراتيجية الموحدتين.. وفي الوقت الذي قاد فيه الإستثمار السياسي المتسرع لنتائج الإنتفاضة الأولى، وما سمي بالولوج والممر القصري الذي أنتج أوسلو الكارثة، وجدنا بأن العسكرة وغياب القيادة الموحدة والإستراتيجة والبرنامج الموحدين، وعدم وضوح الهدف، ونمو طبقة منتفعة من داخل السلطة وخارجها والمغلبة لمصالحها الخاصة على المصالح العليا للشعب الفلسطيني في الإنتفاضة الثانية، مع شدة القمع الصهيوني، كلها عوامل دفعت إلى توقف الإنتفاضة في الثامن من شباط عام 2005.
إنتفاضة دفع شعبنا الفلسطيني فيها ثمنا باهظاً وكبيراً أكثر من (4100) شهيد، وأكثر من (49) ألف جريح، عدا عن عمليات التدمير الواسعة للبنى التحتية والمؤسسات الفلسطينية، وكذلك في هذه الإنتفاضة خسرنا قادة كبار بدءاً من الشهيد القائد أبو علي مصطفى الذي اغتيل في مكتبه برام الله من خلال صواريخ أطلقتها عليه طائرات الإحتلال في 2782001، وليتبع ذلك اغتيال قادة آخرين مثل صلاح شحادة وإسماعيل أبو شنب وعبد العزيز الرنتيسي والشيخ المقعد زعيم حركة "حماس" والأب الروحي لها الشيخ أحمد ياسين، الذي اغتيل بصواريخ أطلقتها عليه طائرات إسرائيلية من الجو في 22 آذار 2004، وكذلك الرئيس أبو عمار الذي حوصر حتى الموت ليستشهد في 11112004، ناهيك عن إعتقال القادة سعدات والبرغوثي وعدد كبير من النواب المنتخبين.
وكذلك قام الإحتلال بإقامة جدار الفصل العنصري حول مدينة القدس، وصعّد من عمليات مصادرة الأراضي وزيادة وتائر الإستيطان بشكل غير مسبوق في القدس والضفة الغربية، وأصبح الإحتلال سافراً وفي قمة الوقاحة والعنجهية، ولم يتورع عن ممارسة التطهير العرقي بحق شعبنا الفلسطيني على طول مساحة فلسطين التاريخية.
الإحتلال لديه أوهام بأن استمرار البطش والتنكيل والقمع بحق شعبنا الفلسطيني، والعيش خلف الجدران، سيجعل الشعب الفلسطيني يستسلم ويرفع الراية البيضاء، ومن ثم يشعر هو بالأمن والأمان، ولكن مع نهاية كل إنتفاضة، تختمر عوامل إندلاع إنتفاضة جديدة، فهذا الشعب مصمم على نيل حريته وإستقلاله، وتحقيق حلمه بالعودة وتقرير المصير والدولة المستقلة، والمحتل مهما طغى وسنّ قوانين وتشريعات عنصرية، تستهدف الشعب الفلسطيني، وكل مقومات وجوده، فهو لن ينعم لا بهدوء ولا أمن، فكل نظريات قادته سقطت من مقولة بن غوريون بأن كبارنا سيموتون وصغارنا سينسون، وقول نتنياهو وغيره من قادة الإحتلال بأن الفلسطيني الذي لا يخضع بالقوة يخضع بالمزيد من القوة.. فمثل هذه المقولات المتطرفة، وتطرف المجتمع اليهودي، وكل تعبيراته السياسية والحزبية، والتي تصل حد إنكار وجود شعبنا، هي المسؤولة عن إدامة الصراع واستمراره، ولن تنفع المحتل كل مشاريعه من التهويد للتطهير العرقي وضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة الدولة اليهودية النقية وغيرها من المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية.
وذلك جاءت الإنتفاضة الثالثة، والتي انطلقت شعلتها وشرارتها من القدس في تشرين أول 2015، لكي تقول المحتل والغاصب، إننا هنا باقون، ولن تنجحوا في إقتلاعنا، ولن تحققوا حلمكم في نكبة جديدة لشعبنا.
المحتل إعتقد بأن الحالة الفلسطينية المنقسمة والمنشطرة على ذاتها، بفعل الإنقسام الذي يفعل فعل السرطان في الجسد الفلسطيني، وحالة الإنهيار العربي غير المسبوقة، ودخول دولها في حروب التدمير الذاتي، وانتقال جزء منها للتطبيع والعلاقات العلنية مع الإحتلال، والمشاركة في مشاريع لتصفية القضية الفلسطينية، وكذلك تعطل الإرادة الدولية وإنشغالها في قضايا أخرى، (سوريا والعراق واليمن)، وإنحياز أمريكا لجانبها وتبني رؤيتها ووجهة نظرها حول الصراع والحل.
هذه العوامل جعلت المحتل يتوهم، بأنه قادر على فرض شروطه وإملاءاته على شعبنا الفلسطيني، بما يفرض عليه القبول بحلول سياسية، تتجاوز حل الدولتين والعودة وتقرير المصير، ولكن دائماً كان يأتي الرد من القدس، فالقدس التي توهم المحتل، أنها حلقة يسهل كسرها، قدمت نموذحاً رائعاً في الصمود والمقاومة والإنتصار، عندما توحدت بكل مكوناتها ومركباتها السياسية الوطنية والدينية والمجتمعية والشعبية، وحققت نصرا بوحدتها وإرادتها وسجاجيد صلاتها على إحتلال مدجج بكل أنواع السلاح، أراد أن يفرض مشاريعه وخططه للتقسيم والسيطرة على الأقصى، من خلال نصب البوابات الألكترونية وتركيب الكاميرات الذكية.. واليوم والإحتلال يخطط لتصفية القضية الفلسطينية، وعندما تقول إستطلاعات الرأي الإسرائيلية، بأن القضية الفلسطينية، لم تعد هي ما يشغل بال الإسرائيليين، تأتي عملية الشهيد نمر الجمل، لكي تقول للإسرائيلين وقيادتهم، بأن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وأرضه، هي جوهر الصراع، ولا أمن ولا أمان في ظل تنكر قيادتكم لحقوق شعبنا، وحقنا في الوجود والحرية والإستقلال، في دولة مستقلة عاصمتها القدس، وعودة للاجئي شعبنا وفق القرار الأممي (194)، وستفشل كل محاولاتكم لشطب هذا الحق ومصادرته وإلغائه.
والصراع مستمر، ما زالت عوامل استمراره قائمة، الإحتلال الإستيطان، العقوبات الجماعية، القمع والتنكيل، الحصار والتجويع، الطرد والتهجير، ولذلك الإنتفاضات والهبات مستمرة مع استمرار الإحتلال.