عادل الأسطة من حيث أريد أو لا أريد عشت زمن الاشتباك. كما لو أنني ذلك الطفل الفلسطيني اللاجئ الذي كتب عنه الشهيد غسان كنفاني قصته القصيرة "زمن الاشتباك " أو"الصغير يذهب إلى المخيم" وغالباً ما يشتبه الأمر علي ويختلط في دقة العنوان.
في قصته يميز كنفاني، على لسان سارده، بين زمن الاشتباك وزمن الحرب.
في زمن الحرب ثمة هدنة يلتقط خلالها المحارب أنفاسه وليس الأمر كذلك في زمن الاشتباك، ففي هذا لا يجد المشتبك مع الحياة فرصة لالتقاط أنفاسه.
منذ وعيت على هذه الفانية وأنا أعيش في زمن الاشتباك؛ في المخيم وفي الجامعة الأردنية وفي الجامعة في ألمانيا وفي جامعة النجاح الوطنية حيث أعمل مدرساً منذ 1982.
حتى في أثناء إقامتي في ألمانيا التي كان يجب أن ألتقط فيها أنفاسي - أقمت هناك أربع سنوات - عشت زمن الاشتباك بأقسى أشكاله، لدرجة أن ترحيلي كان قاب قوسين أو أدنى.
هل اختلف الأمر حين عدت إلى نابلس؟
دونت في نصوصي ورواياتي وخربشاتي أكثر ما حدث معي وألمّ بي.
هل كان غسان كنفاني يكتب عني وهو يكتب عن ذلك الطفل الفلسطيني اللاجئ الذي كان عليه أن يوفر لقمة العيش لأهله حين عجز الكبار عن توفيرها، بعد أن طردهم اليهود الإسرائيليون عن أرضهم؟ (كم نسبة المبالغة في كلامي عن ذاتي؟).
في طفولتي لم أترك المدرسة مثل أخويّ الكبيرين لأساعد أبي في الإنفاق على العائلة كثيرة العدد، ولكني أنا الثالث كان عليّ أن أجلب الماء من عين المخيم لأمي، وإن لم أتمكن من جلبه من عين المخيم وجب أن أذهب إلى النبع في القرية المجاورة، وكان عليّ أيضاً أن أخبز العجين في فرن المخيم القريب من بيتنا.
أنتظر دوري في عين المخيم وأنتظر دوري في الفرن وكان لا بد من تعلّم الانتظار. إنه الدرس الأول قبل أن نقف على الجسر وقبل أن نحيا حياة الحواجز في انتفاضة الأقصى - هذا إذا غضضت الطرف عن الانتظار أول كل شهر لاستلام مؤن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
في الجامعة عشت أيضاً زمن الاشتباك؛ التسجيل والامتحانات والبحث الممضّ عن سكن والسفر من خلال الجسر و..و...
ومنذ تخصصت في الأدب العربي وبدأت أعوّد أصابع اليد على الكتابة اتخذ الاشتباك شكلاً جديداً. لقد بدأت اشتبك مع الأدباء والكتاب.
هل كان غسان كنفاني واحداً من الكتاب الذين اشتبكت مع نصوصهم؟
إن كان للاشتباك معنى سلبي فقط فلعلني لم أشتبك مع نصوص غسان، ولكن ماذا إذا كان للاشتباك معنى أوسع وأبعد من معناه السلبي؟
غسان كنفاني نفسه كان مشتبكاً مع الحياة، وكل نصوصه التي كتبها هي شكل من أشكال الاشتباك، وهكذا فإن قراءة أعماله تعد اشتباكاً مع الحياة.
منذ أخذت أدرس في المدارس الثانوية والإعدادية والجامعة وأنا أدرس نصوصه وأشتبك معها.
اشتبكت معها قارئاً ومدرساً وناقداً ومحاضراً ومشاركاً في ندوات ومؤتمرات برامج تلفازية و...و...
وغالباً، بل ودائماً ما كنت أثمّن نصوصه وأتحدث عنها حديثاً إيجابياً.
هل اشتبكت معها مرة اشتباكاً سلبياً؟ وهل يحق لي أن أشتبك معها اشتباكاً سلبياً؟ (ماذا سيقول عني أصدقائي من رفاق الجبهة الشعبية؟).
إميل حبيبي اشتبك مع كنفاني اشتباكاً سلبياً. تتبع حبيبي مسيرة بطل رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" واكتشف أن غسان لا يعرف المدينة وقال حبيبي بنزق: كان على غسان ألا يكتب عن حيفا. كان عليه أن يترك الكتابة عنها لي؟ هل يجوز أن تسأل إميل: لماذا لم تكتب في فترة مبكرة؟ - استشهد كنفاني قبل أن يكتب إميل روايته التي أشهرته 1974.
أول اشتباك سلبي مع نصوص غسان سمعته من الشاعر والقاص الفلسطيني أحمد حسين صاحب مجموعة "الوجه والعجيزة".
التقيت بأحمد حسين في نابلس في 1978 تقريباً وسرنا معاً وأتينا على أعمال كنفاني. قال لي أحمد: أعمال غسان كنفاني موضوعات إنشاء ليس أكثر.
وكنت يومها معجباً بغسان - وما زلت - ولم يكن لدي بالأدب إلمامٌ كافٍ.
هل خطر ببالي أن أسأل: كيف يهاجم أحمد حسين كنفاني؟ وكان أحمد كتب القصة القصيرة الناضجة فنياً بشهادة كتّاب كثر، حتى أن بعض محبيه يذهبون إلى أنه أفضل من كتب القصة القصيرة الفنية في فلسطين 1948 ويتفوق في هذا على "سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي.
فيما بعد سأرى في بعض روايات غسان روايات أفكار. إن "عائد إلى حيفا" هي رواية أفكار بالدرجة الأولى ولكنها لا تخلو من الروح القصصية والروائية.
إنها رواية ليست صادرة عن تجربة معيشة قدر ما هي رواية تدحض الفكر الصهيوني الذي قرأه غسان من خلال قراءته الأدب الصهيوني الذي كتب عنه.
مؤخراً كنت أقرأ في كتابي غسان عن أدب المقاومة. هل لاحظت أشياء يمكن أن تدفعني للاشتباك معه اشتباكاً سلبياً؟
ولكن عليّ ألا أنسى أنه كتبها في 1966 و1968، وفوق هذا وتحته وقبله وبعده يجب أن نحترم غسان لأنه رمز من رموزنا الوطنية.
هل ستؤثر المرحلة ذات يوم علي فأغدو مثل أبي الخيزران؟
يبدو أن أيامنا القادمة هي أيام أبي الخيزران وإلا ما معنى هذا الإجحاف بحق رموزنا من غزة حيث تم استبدال اسم مدرسة غسان كنفاني لتغدو مدرسة مرمرة - كما سمعت - إلى مدينة جنين حيث أساؤوا لتمثال الشهيد خالد نزال.
في ذكرى غسان كنفاني لا بد من كتابة ما ورحم الله الشاعر أحمد دحبور الذي قال لي: منذ استشهد غسان وأنا أكتب كل عام في ذكراه.