بقلم نائل عبداللطيف عام كامل انقضى، هو لا يزال يرتدي نفس تلك الكوفية البيضاء والسوداء، التي اصفرت ألوانها مع الوقت منذ آخر مرة التقيته فيها، يمسك بيده اليسرى "سيجارة" نصفها محترق، ويجلس على حافة بالقرب من الطريق العام في مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان.
لحيته الطويلة وشعره المبعثر، أوحيا لي قبل أن اقترب أن مشكلته لم تحل بعد، فـ(ن.ع) ابن الـ25 ربيعاً وهو لاجئ فلسطيني من سكان المخيم، كان قبل عام قد أخبرني أنه يحضر أوراقه هو وعدد من رفاقه استعداداً للسفر.
أنا: شو اخبارك!
(ن.ع): والله الحمدلله، هينا منحضر وراقنا أنا وكمان شبين بدنا نسافر.
أنا: وانت ليش مسافر ما انت عندك شغلك وماشي أمورك؟
(ن.ع): والله يا صاحبي أنا مش طالع معاهم لأوروبا، همي طالعين يعيشو، يحسو انهم بشر، أنا بديش هالإحساس، أنا بس بدي أطلع عالمغرب أخطب وارجع.
هكذا تجاذبنا أطراف الحديث فيما بيننا قبل عام. اقتربت، جلست بالقرب منه عند تلك الحافة التي إلى حد ما يمكن القول أنها جزء من الطريق، التفت نحوي بهدوء وتنهد طويلاً. قال لي "مش حكيتلك احنا بحقلناش نحلم ولا نتجوز".
انا: ليش هيك بتحكي ايش الي صاير.
(ن.ع): ولا صاير إشي انا صرلي سنة بجرب آخد فيزا أهل البنت وافقو علي وشرطهم الوحيد اني آخد فيزا واسافرلها وهيني كل مرة بعطولي رفض وبرجع انطر المدة القانونية 3 شهور وبرجع أقدم وانا عارف اني مرفوض بس يا اخي بحبها".
انا: طيب والشباب؟
(ن.ع): الشباب!!! هيهم من تحقيق لتحقيق، اتفقو مع واحد يسويلهم فيزا وطلع نصاب وأعطاهم وراق مزورة وفوقها أخد منهم كل واحد 750 دولار وكان طالب 4000 بس تطلع الفيزا.
أنا: طيب بتعرفوا
(ن.ع): أه يا زلمة هو حكالنا اسمو احمد، مكتبه بوسط البلد حد أسواق بيروت.
أنا: ليش ما تشتكو عليه؟
(ن.ع): بس يا زلمة، لو حد قادر يحكي معاه اشي كان فتح بوسط البلد.
نصمت، وينتهي الحوار.
لا يا سادة، هم ليسوا أشخاصاً وهميين، أنا هو (ن.ع) والشابين هما صديقان لي، تم استدعائهم من قبل الشرطة القضائية اللبنانية مرتين للتحقيق معهما، بسبب طلب تضمّن أوراقاً مزورة كان (النصاب) قد قدمه باسميهما للسفارة الإيطالية في بيروت من أجل الحصول على تأشيرة، مقابل دفعهم مبلغاً من المال له.
لماذا الحوار....؟ لأننا فلسطينيون لاجئون، لا نحمل جنسية، لا نحمل هوية، ولا نحمل جواز سفر، كل ما نملكه وثيقة سفر صادرة عن الجمهورية اللبنانية، وكم كثيرة هي تلك الدول التي تفكر آلاف المرات، وفي النهاية تقف عند أعتاب باب السفارة، ينظر لك الموظف المسؤول عن متابعة طلبك، وبابتسامة صفراء "بعتذر منك استاذ انت مرفوض" وعند السؤال عن السبب على الرغم من إبرازك كافة الوثائق المطلوبة للحصول على تأشيرة، يقول لك "لا يوجد سبب"، وبعضهم تذهب به "الوقاحة" ليقول في وجهك "انت فلسطيني لاجئ، وثيقتك ما بتسمحلك".
الحوار في مستهل المقال هذا، يجسّد حال المئات بل الآلاف من الشباب الفلسطيني اللاجئ في لبنان الذي يضيع بين مطرقة الحرمان من حقوق الإنسان وسندان مكاتب السفريات الوهمية (النصابين).
لماذا نريد السفر إلى الخارج..؟ لماذا لا نرضى بحياتنا في لبنان..؟ لماذا نحن هنا أصلاً..؟ أسئلة يطرحها عليك كل غريب عن البلد، وأحياناً أبناء البلد نفسه ممن لا يعرفون بوجود مخيمات فلسطينية في لبنان منذ 67 عاماً.
آسئلة تجد نفسك مضطراً للإجابة عنها آلاف المرات، لأنك "لاجئ فلسطيني"، يبدأ الناس بتوجيهها إليك منذ نعومة أظفارك، مع أول سؤال يوجه إليك بشكل مباشر، تبدأ بالتساؤل لماذا خلقنا فلسطينيين، لماذا لم نخلق في وطننا، ولماذا نحن لاجئين..؟
تكبر، وتطرح عليك الأسئلة نفسها آلاف المرات مجدداً، حتى تحترف فن التهرب من الإجابة عنها، للهرب من الواقع، ذلك الواقع الذي يرافق الشاب "اللاجئ الفلسطيني" في بلد، حتى مواطنوه يحرمون من حقوقهم في بعض الأحيان، فلبنان ينتهك العديد من المواثيق والقوانين الدولية التي تحفظ حق وكرامة اللاجئ الفلسطيني وعيشه "كإنسان" بكل تلك القوانين والتشريعات التي وضعتها الحكومات اللبنانية المتتالية، والتي كانت تسلب اللاجئ الفلسطيني حقوقه واحداً تلو الآخر، فاليوم وبموجب القانون رقم (296) يمنع الفلسطيني من التملك في لبنان، بالإضافة إلى نص القرار (17561) الذي يمنع الفلسطيني من العمل بـ73 مهنة في لبنان.
لو سلمنا جدلاً، أن اللاجئ الفلسطيني ما عاد يريد العمل أو التملك في الجمهورية اللبنانية التي نكن لها كل الشكر على استضافتنا كلاجئين على أرضها، لكن أن يمنع من السفر أيضاً، أن يمنع من حرية التنقل التي نصت عليها المادة (13) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أن يمنع من حرية العيش وفق ما ذكر في المادتين الأولى والثانية من الإعلان نفسه، فلا يوجد أي قانون أو تشريع أو مادة حقوقية تنص على سلب الإنسان حقوقه حتى وإن كان لاجئاً.
والغريب هنا، أنه وعلى الرغم من عدم وجود أي قانون يمنع اللاجئ الفلسطيني في العموم من السفر لأي بلد، لكن عند ذهابك لأي سفارة دولة في العالم يتم استقبالك كأي شخص آخر في البداية، ملامح اللاجئ تبدأ بالظهور عليك عند القدوم لإستلام الرد على طلبك.
عندها تكتشف أنك خسرت الوقت والمال في محاولتك للحصول على تأشيرة، تكون في الغالب مرفوضة مسبقاً لكونك لاجئ، وما هي إجراءات التقديم إلا مماطلة، وقناع ترتديه سفارات العالم لتقول أننا نحترم اللاجئين وحقهم في الحياة. وتصبح من بعدها القوانين والتشريعات التي تحفظ حقك في التنقل والعيش بكرامة، مجرد حبر على ورق.
في النهاية، ستأتون إلي العام القادم، ستجدوني بنفس كوفيتي الباهتة و"سيجارتي"، أجلس عند نفس العتبة القريبة من الطريق العام في المخيم، أتذكر تلك الفتاة التي أحببتها، ولم أستطع تأمين مهرها، لم أتمكن من الحصول على تأشيرة لدخول أراضي البلد الذي هي فيه، والسبب.. أن العريس "لاجئ فلسطيني".