داود شهاب – الناطق الإعلامي باسم حركة الجهاد الإسلامي – غزة (1) في الأوقات العصيبة التي تكاد تنعدم فيها الرؤية الصحيحة وتتراكم فيها التحديات داخلياً وخارجياً، تحتاج الأمم والشعوب إلى قيادة وتوجيه سليم يضيء لها الطريق ويرشدها نحو الخلاص، وهذا التوجيه يرتبط دوما بالمصلحين والقادة والعلماء، والتاريخ البشري – القديم والمعاصر – زاخر بالنماذج والشواهد على هذا الدور.
ولذلك خص الله تعالى العلماء بمنزلة عظيمة "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، ورفع قدر العالم العامل والعالم المجاهد الذي يصدح بالحق، في مواجهة التضليل والانحراف والتزييف الذي تتعرض له الأمة.
(2)
بدأت بهذا الاستهلال في معرض متابعة ردود الفعل على مبادرة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، الدكتور رمضان عبد الله، والتي حظيت بإجماع غير مسبوق عن غيرها من المبادرات والأطروحات، ولعل المطالع لحجم ردود الفعل على المبادرة يدرك ما الذي أعادت المبادرة تعريفه في وعي الجمع الفلسطيني والعربي والإسلامي، إنها أعادتنا إلى فلسطين وإلى تشخيص الحالة الفلسطينية كحالة تحرر وطني، وليس البحث عن شرعية سلطات في أجندة الاعتراف بـ"إسرائيل" وإسقاط فلسطين من خارطة التاريخ والجغرافيا.
حجم ومستوى ردود الفعل، يفسر أن الدكتور رمضان وكعادته، لم يرد أن تكون إطلالته أمام الحشود في غزة مناسبة للسجال والاستعراض، وما ميز المبادرة أنها رؤية سياسية أصيلة لديه ولدى حركته، وليست محاولة للاشتباك الإعلامي.
من هنا يأتي تميز ردود الفعل التي أجمعت على المبادرة التي جاءت تتويجا لخطاب هام تحدث خلاله الأمين العام في نقاط عديدة ذات علاقة بالقضية الفلسطينية وما تمثله من قاعدة لبرامج عمل حركة الجهاد ومحور لتحركها السياسي وعلاقاتها في المنطقة.
(3)
ردود الفعل، على أهميتها، لم تقتصر على المقالات والتصريحات المؤيدة والمساندة. وعلى أهمية كل ما كتب من مقالات وتحليلات، تأخذها الحركة بعين الاعتبار، وهي تواصل عزمها العمل الجاد والفاعل لتحقيق ما تضمنته المبادرة، استناداً لحجم التأييد الذي تتواصل أصداؤه، فإن ما استوقفنا ملياً هي رسالة التأييد المباركة التي تلقاها الأمين العام وقيادة الحركة من فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، بكل ما تمثل من قيمة وشهادة بحق الدكتور رمضان وحركة الجهاد الإسلامي، التي عانت ولاقت في مسيرتها أذى كثيراً "من ذوي القربى".
سأحاول في هذه السطور قراءة وتحليل هذه الرسالة المهمة في توقيتها وموضوعها ومضمونها، والوقوف على أهم الدلالات والإشارات التي حملتها، قراءة نتلمس فيها كيف نتعامل مع أفكار ومواقف علمائنا العاملين، وقادتنا المجاهدين، حين يتحدثون باسم دماء الشهداء على ثرى فلسطين، ونسجل فيها النقاط التالية:
• لا نبالغ إن قلنا إن هذه الرسالة ــــ الوثيقة ربما تكون أهم شهادة من جمهور وتيار الأمة الرئيس، أهل السنة، ممثلاً بعالم ورمز كبير من رموزه بحجم العلامة القرضاوي، في حق حركة الجهاد الإسلامي منذ نشأتها إلى اليوم، والتي شهد القاصي والداني أنها كانت السباقة في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة في فلسطين، في رفع بندقية الجهاد والمقاومة تحت الراية الإسلامية بعد أن خبت شعلة الكفاح المسلح في الثورة الفلسطينية.
• إن الأمانة تقتضي القول إن هذه الشهادة لم تأت في حق الحركة مباشرة كجماعة أو تنظيم، بل جاءت ضمناً من خلال صدورها في حق قائد هذه الحركة المجاهدة، الدكتور رمضان الذي قاد سفينتها خلال واحد وعشرين عاماً، منذ رحيل الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي ومازال، بكل جدارة وشجاعة لفتت أنظار كل من يعرف الحركة والدكتور رمضان كقائد وطني وإسلامي، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ القرضاوي.
• من يقرأ لغة الرسالة التي كتبها العالم والأديب والأصولي والفقيه الكبير، الشيخ القرضاوي، من أول كلمة في الرسالة وإلى نهايتها، يدرك حجم التقدير والاحترام، بل المحبة العميقة، والثقة الكبيرة، التي يوليها العلامة القرضاوي لشخص الدكتور رمضان، الذي يبادله ذات الشعور والنظرة ويعتبر نفسه أحد تلاميذ الشيخ باعتزاز، فهو عند الشيخ (الأخ الحبيب الصابر المرابط المجاهد.. ورجل الجهاد، وداعية الجهاد، والمحرض على الجهاد، وصاحب الفكر "ندافع عن فكرتك") الذي يخاطبه بكل تواضع العلماء الكبار، وكل الحب والمودة، بقوله: أخي!
• لعل أبرز ما في الرسالة لغة ومضموناً، هي الجرعة الإيمانية التي تضمنتها الرسالة، والتي استمطرت دموع بعض المحبين والمخلصين من أبناء الجهاد والشعب الفلسطيني.. إنه نص مستمد من وحي السماء، أي من كتاب ربنا، يصبه العالم الرباني على قلب أبي عبد الله وإخوانه في لظى المرحلة ولهيبها، وهو يقول له: "إن الأمة كلها تسأل الله تعالى أن يشرح لك صدرك، وييسر لك أمرك، ويضع عنك وزرك الذي أنقض ظهرك"، ويخاطبه بثقة العالم الرباني الذي يرى المسار والمسيرة بنور الله، فيقول له: "فلا تبتئس ولا تخف، فالله معك، وملائكته معك، وأنبياؤه معك، وخاتم أنبيائه معك، وصحابة نبيه معك، وكل أجيال الأمة المؤمنة معك".
وبلغة الواثق من حتمية النصر والنجاة على طريق الجهاد، يشد الشيخ العلامة على يد أبي عبد الله بقوله: "ولن تهلك ولن تضيع، وكل هذه الأعوان والأنصار تحييك وتهنيك (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) {النمل: 79} (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً) {النساء: 84}".
• إن إعلان الشيخ تأييده لخطاب الدكتور رمضان ومبادرته في هذه الرسالة، ليس من قبيل المجاملة للدكتور أو حركة الجهاد، بل ينم عن وعي عميق وإدراك لحقيقة ما طرحه الدكتور، إلى درجة أنه يصف ما أعلنه الأمين العام بـ "البراءة أو التصحيح أو الشهادة في عصر قل فيه الشاهدون بالحق". وهذا يدلل على وعي الشيخ بحجم الانحراف والعطب الذي أصاب القضية الفلسطينية من مسار التسوية المهلك. أما عن درجة ومستوى التأييد للمسار الذي يطرحه الدكتور رمضان، فيقول: "أكتب إليك يا أخي مؤيداً ومساندا ومعاضداً، لما وفقك الله تعالى إلى النطق به، في عالم قل فيه من يقول الحق، ولا يبالي بما تكون النتائج".
• تظهر الرسالة ثقة الشيخ الكبيرة في أن ما طرحه أمين عام الجهاد من الدعوة إلى إلغاء اتفاق أوسلو، وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل"، وسلوك طريق الجهاد والمقاومة من أجل التحرير، لا ينال تأييد الشيخ فقط، بل هو محل إجماع علماء المسلمين، فنراه يقول: "أنا يا أخي، ومعي سائر علماء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، نقف عن يمينك، وعن شمالك، ومن أمامك، ومن خلفك، ندافع عن فكرتك، ونحامي عن حماك، نحن وأبناؤنا وأحباؤنا".
• تظهر رسالة الشيخ بكل قوة ووضوح، موقع فلسطين ومركزيتها وأولويتها في فكر الشيخ القرضاوي ومنهجه، وهو أمر عرف عن الشيخ القرضاوي طول تاريخه ويؤكد عليه في رسالته فيقول: "فليس عندنا شيء يعلو على فلسطين، الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.. أرض النبوات والمقدسات، والمسجد الأقصى، كلنا نفديها وندعو أمتنا الكبرى كلها لفدائها".
• رغم كل ما يعتري الأمة من ضعف وتمزق وصراعات، إلا أن العالم الكبير الذي يعرف موقع هذه الأمة في القرآن والتاريخ، وأمضى سنوات عمره الحافلة مدافعاً عن قضاياها المصيرية، لا يفقد ثقته بهذه الأمة، ولا ينقطع رجاؤه منها، فيقول مخاطباً الدكتور رمضان: "سر يا أخي على بركة الله، وثق أن الأمة كلها معك، تدعو لك، وتشد أزرك، وتحمي ظهرك..".
• غير أن الثقة في الأمة لا تحجب عن الشيخ حقيقة حال الأمة ومظاهر الضعف الوهن ومصادره من مختلف الفئات، فنراه يحث داعية الجهاد كما وصف الدكتور رمضان، أن يستنهضهم جميعاً فيقول: "يا أخي رمضان، اصرخ في النائمين عسى أن يستيقظوا، وفي المتباطئين عسى أن يخجلوا، وفي القاعدين عسى أن يعملوا، وفي القوَّالين عسى أن يفعلوا، وفي اليائسين عسى أن يتوكلوا، وفي المتكاسلين عسى أن ينهضوا أو يرحلوا، وفي المتفرقين عسى أن يجتمعوا، وفي المختلفين عسى أن يتحدوا".
ختاما، فإن هذه الرسالة على صغر حجمها، ستظل من أهم السطور، وأخلص المشاعر، وأصدق الكلمات التي سطرها عالم رباني، لا يخشى في الله لومة لائم، في حق فلسطين والمقاومة، وفي حق حركة الجهاد الإسلامي وأمينها العام الدكتور رمضان عبد الله... وإذا كان خطاب الدكتور رمضان، وما اصطلح على تسميته في الساحة الفلسطينية بمبادرة الجهاد، هي شهادة الدكتور رمضان وحركته في ذكرى انطلاقتها على المرحلة، وهدية أبي عبد الله لروح الشهيد القائد والمؤسس الدكتور فتحي الشقاقي وكل الشهداء، ولجيل الشباب، جيل أسامة، كما يسميهم الدكتور رمضان في ميلادهم المتجدد؛ فإن شهادة العلامة القرضاوي هي تاج فخار لحركة الجهاد، ووسام شرف علقه الدكتور رمضان بخطابه التاريخي على صدر الحركة وصدر جناحها المقاتل "سرايا القدس"، فحياك الله يا شيخنا القرضاوي.. وشكراً أبا عبد الله!.