وكأن بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، كان ينتظر على أحر من الجمر، وصول المفاوضات للطريق المسدود، حتى يطلق إجراءاته العدائية ضد الجانب الفلسطيني من عقالها،
بما لا يدع مجالا للشك، بأن رغبة الرجل وشهوة اليمين الإسرائيلي البالغة، لممارسة كل أعمال وأشكال العنف والقهر والاضطهاد تجاه الفلسطينيين، سلطة وفصائل ومواطنين، إنما كانت حبيسة ومحجوزة، بل وممنوعة خلال الشهور الماضية.
وإذا كان الإجراء الإسرائيلي الرسمي والفوري، قد تمثل بتعليمات نتنياهو بوقف تحويل أموال الضرائب، وهذه عادة دأب عليها الجانب الإسرائيلي خلال الأعوام الماضية، كلما توجه الجانب الفلسطيني للأمم المتحدة، كذلك بالإعلان عن سحب بطاقات الشخصيات المهمة من رجال ومسؤولي السلطة، ثم قطع العلاقات مع مؤسسات السلطة ووزاراتها، باستثناء الجانب الأمني، يعتبر ضغطاً وفعلاً عنيفاً من قبل إسرائيل، فإن الإجراء الأخطر _ برأينا _ هو ما يجري على الأرض، منذ إعلان الرئيس محمود عباس عن تقدم السلطة لطلب عضوية دولة فلسطين في خمس عشرة معاهدة ومنظمة دولية الأسبوع الماضي، ونقصد بذلك الإجراءات الاحتلالية المقيتة الخاصة بإطلاق الاستيطان، فمنذ أيام وإسرائيل تشن حملة مسعورة بمصادرة الأراضي في الضفة الغربية والقدس، وكان آخر تلك الإجراءات الإعلان عن مصادرة نحو ألف دونم من أراضي بيت لحم.
وإذا كان نتنياهو قد أعلن غضبه من تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي لم يدخر جهداً خلال العام الأول الذي أمضاه في منصبه، من أجل تحسين صورة إسرائيل والدفاع عن مصالحها، من خلال محاولته تبريد أقدم وأخطر ملفات الشرق الأوسط، والذي يعني تسخينه وضع إسرائيل في أتون النار، حاول أن يكون "موضوعياً" قليلاً، أو أن يقلل من الخسائر التي نجمت عن عدم ضغط رئيسه باراك أوباما على نتنياهو، بالتحديد، حين التقاه قبل بضعة أسابيع في واشنطن، أو حتى أنه يحاول أن يخفف من شعور الجانب الفلسطيني بالغبن، أو اليأس الذي قد يدفعه إلى الشرق، حيث إن كثيراً من لاعبي الشرق الأوسط بدؤوا فعلاً رحلتهم الى روسيا، البلد ذي التاريخ الحافل بمناصرة الشعوب، وكفاحها من أجل نيل الحرية والاستقلال، وإذا كان كيري الذي سعى بكل ما أوتي من صبر أن ينجز أولا اتفاق إطار للمفاوضات، يتوافق تماماً مع المواقف الإسرائيلية في كل الملفات موضوع النقاش، قد قوبل بهذا الحنق من نتنياهو، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية وهو يتبجح بأن إسرائيل دولة مستقلة يمكنها أن تقول: لا، ويقصد في وجه أميركا، الدولة الصديقة لإسرائيل، فإنه يسقط من حساباته، أن الشعب الفلسطيني، شعب مكافح، يمتلك القوة الأخلاقية لا ليقول لا فقط، بل ليغير مجرى التاريخ، ويقوم بتغيير الواقع، وبالأخص واقع إسرائيل نفسها، التي لا بد من وضع حد لطبيعتها العدوانية، وللحالة الاحتلالية التي تلازمها منذ نحو خمسة عقود.
فإما أن تقبل بأن تكون "دولة" عادية وطبيعية في المنطقة، حتى يقبلها المحيط وفق شروطه هو، أو أن تعود من حيث أتت، أي إلى العدم. ولو قبل بها الفلسطينيون من واقع ضعف ويأس واستسلام كدولة يهودية، باغية، متسلطة، عدوانية ومحتلة، ومهيمنة على المنطقة، فإن الشرق الأوسط كله لن يقبل بها هكذا، وسرعان ما يتصدى لها، كما سبق وفعل تجاه المغول والصليبيين وحتى الاستعمار الغربي (الفرنسي والإنجليزي ومن ثم الأميركي).
أما الجانب الفلسطيني، الذي ما زال يضبط النفس، ويبدي جلداً وصبراً وتماسكاً، ربما لأنه أدار المعركة من وراء الكواليس، حتى الآن، بشكل جيد، يمكنه خاصة في حال إن تحقق له عاملا قوة إضافية : الأول، تغطية فعلية من الدول العربية، بشبكة الأمان (100 مليون دولار شهريا)، والثاني إعلان المصالحة مع "حماس"، ان يتقدم كثيراً، ليس فقط في مواجهة الإجراءات الاحتلالية المنفلتة من عقالها، تحت حجة توقف المفاوضات، وفي سياق استثمار الظرف الراهن، ولكن في الانتقال من الدفاع الى الهجوم، ويتمثل ذلك، أولاً بإعلان الرد على القرار الإسرائيلي بقطع العلاقات مع السلطة، بأن يكون قطع العلاقات شاملاً، أي أن يشمل وقف التعاون الأمني أيضاً، فالسلطة إما أن تكون سلطة حاكمة، ومشروع دولة مستقلة، أو لا تكون، خاصة أن لا تكون سلطة أمنية، على الطريقة اللحدية. وثانياً، بمجابهة كل إجراء استيطاني، منذ لحظة الإعلان عن مصادرة أية أرض، بحشد الجماهير في تلك الأرض المصادرة، تحديداً، وذلك لإطلاق الشارع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، بإجراءاته الملموسة والمحددة، وليس وفق الشعار المجرد وحسب، وهنا يمكن للجميع أن يتنافس على مواجهة الاحتلال بالفعل وليس بالادعاء، على أن يكون الجميع في الخندق ذاته.
بقي أن نقول بأنه إذا كان قادة "فتح" والسلطة قد ردوا على إجراءات نتنياهو ردودا متعددة المستوى، شملت تحذير عزام الأحمد من أن تلك الإجراءات من شأنها أن تؤدي الى انهيار السلطة، واشتراط صائب عريقات تنفيذ إسرائيل لكل استحقاقات خارطة الطريق حتى يمكن القبول بالعودة للمفاوضات، إلى اعتبار جبريل الرجوب أن ذلك يعيد الطرفين للخيار صفر، فنحن نقول، أهلاً وسهلاً بهذا الخيار، لأنه يفتح الباب واسعاً، على دفن كل أوهام إمكانية التوصل إلى الحل السياسي مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومن خلال المفاوضات دون أن تترافق مع المقاومة بكل أشكالها الممكنة، وخاصة المقاومة الشعبية، وعلى بدء الكفاح الجدي من أجل تحرير دولة فلسطين، وتطبيق القرار الأممي على الأرض، وهذا كفاح، فقط ينتظر الشرارة الأولى التي يطلقها شبل فلسطيني أو زهرة فلسطينية، شاب أو فتاة، أو أي إنسان فلسطيني، حتى تبدأ معركة العالم بأسره، ضد هذا الابن الضال جداً، والذي بقي هكذا، طالما ظل ولداً مدللاً، وضعته القوة العظمى فوق القانون الدولي، وخارج دوائر المساءلة والمحاسبة. وإذا كانت دول كثيرة تكافح الآن ضد الاستبداد والفساد الداخلي، حيث تتنافس أميركا وروسيا على دعم انتفاضات الشعوب ضد حكامها المستبدين، فإنه من باب أولى أن يقف كل العالم مع شعب دولة محتلة يكافح من أجل الاستقلال.