أخيراً قطع تقرير الأطباء السويسريين المكلفين بفحص عينات من رفات الراحل الفلسطيني العظيم ياسر عرفات الشك الذي كان ينتاب ملايين الفلسطينيين باليقين، وتأكدت تماماً شبهة "قتل" الزعيم الراحل، الذي أرق الإسرائيليين وأقض مضاجعهم في حياته، وعلى مدار نحو نصف قرن، أسس خلالها، وقاد أهم ثورة في حياة
الشعب الفلسطيني ضد العدو الإسرائيلي الغاصب لوطنه والمحتل لأرض شعبه.
ورغم أن الراحل ياسر عرفات كان قد عقد اتفاقية سلام مع الإسرائيليين، العام 1993، وحاز على أثرها مع رابين وبيريس على جائزة نوبل، ورغم أن القانون الدولي يحرّم قتل البشر دون وجه حق، أو على الأقل دون محاكمة، إلا أن إقدام إسرائيل على اغتيال ياسر عرفات، إنما كان بدافع التصفية السياسية، دون أدنى ريب أو شك، وقد وصلت حدود الصفاقة الإسرائيلية إلى أبعد مدياتها، حين علل الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية إيغال بالمور، رحيل عرفات قبل تسع سنوات ببلوغه الخامسة والسبعين من العمر وبأن أسلوب حياته كان غير صحي!
أولاً وقبل كل شيء، إسرائيل هي من وضعت الراحل في ظرف غير صحي، حين فرضت عليه إقامة جبرية في المقاطعة ولم تأخذ بعين الاعتبار حالته الصحية، ولكن يبقى الأهم هو استخفاف الجانب الإسرائيلي بنتيجة الفحص الطبي، الذي أشار بوضوح إلى وجود نسبة البولونيوم المشع في رفات الراحل، ما يؤكد الشبهة الجنائية بنسبة 83%، وهذا البولونيوم لا يوجد إلا عند الدول التي لديها مفاعل نووي، وكما هو معروف ليس في الشرق الأوسط من يمتلك هذه الطاقة سوى إسرائيل، كما أنه ليس هناك من له مصلحة في اغتيال أبو عمار أكثر من إسرائيل.
بالطبع ليس مفاجئاً أن تقدم إسرائيل، بشكل رسمي، أي كدولة على اغتيال فلسطيني، حتى لو كان الفلسطيني الأول، وأيادي إسرائيل ملطخة بدماء الفلسطينيين بامتياز، بل هي ارتكبت عشرات، بل ومئات المجازر بحق الفلسطينيين على مدار سبعة عقود مضت، أي منذ أن أنشئت، وحتى قبل أن تعلن دولتها، التي أقامتها، أصلاً، على ركام بيوت وعلى جثث الفلسطينيين.
لكن إسرائيل التي تعرف قيمة ومكانة عرفات عند الفلسطينيين تخشى من رد الفعل الشعبي، كما أنها ومنذ أن بدأت الأوساط الفلسطينية تفكر في اللجوء إلى المحاكم الدولية ومقاضاة الإسرائيليين وقادتهم على جرائمهم المتلاحقة، خاصة بعد أن فجرت حادثة اغتيالهم للشهيد محمود المبحوح في دبي ردود الفعل العربية، وفتحت ملفات طالما تم تجاهلها، حيث كانت إسرائيل لا تتورع عن انتهاك سيادة دول عديدة، تقوم باغتيال فلسطينيين على أراضيها، تخشى أن يتم الكشف عن الجرم الجنائي في رحيل أبو عمار، عن فتح الملف الذي اعتقدت إسرائيل أنه اغلق برحيله، بما يعني أن الراحل سيلاحق القتلة الإسرائيليين، بعد مماته، وأنه سيقض مضاجعهم مجدداً، كما كان يفعل في حياته.
ولا شك في أن طرح هذا الملف مجدداً على طاولة التداول الشعبي والقضائي، سيؤثر ليس فقط على الملف السياسي، حيث تحاول إسرائيل "لفلفته" عبر عملية تفاوض مريحة لها، وغير محبذة تماماً لدى الجانب الفلسطيني، كما أنه قد يكون أحد العوامل المساعدة على انطلاق المقاومة الشعبية المنتظرة، والمتوقعة في أي وقت.
بالطبع في التفاصيل فإن قرار الاغتيال الإسرائيلي للراحل عرفات، اعتمد على عميل محلي أو حتى على مجموعة عميلة، لكن ليس هذا هو المهم، كما أن رغبة الفلسطينيين بإشفاء الغليل من العميل أو العملاء، الذين شاركوا في عملية الاغتيال، يجب أن لا يحرف البوصلة عن القاتل، وهو الحكومة الإسرائيلية، والتي تعبّر عن دولة قامت وما زالت تمارس القتل والإرهاب في كل مستوياته، ولن تكف عنه ما دامت هي دولة محتلة، وما دامت تؤمن بالفكر والثقافة العنصرية، التي ترى، كما كانت ثقافة النازي والفاشي، ترى في اليهود شعب الله المختار.
لقد أمضى الراحل العظيم ياسر عرفات عمره، في الكفاح من أجل القضية الفلسطينية، وليس أقل أن يقابل شعبه ما قام به من أجله، بتوفير أسباب الراحة الأبدية إلى روحه الطاهرة، من خلال الكفاح من أجل أن ينال المجرم الإسرائيلي، حتى لو كان المقصود اسم رمز الإجرام الإسرائيلي، أرئيل شارون، رئيس حكومة إسرائيل في ذلك الوقت، والذي على الأرجح هو من أعطى الأمر بتصفية واغتيال أبو عمار، خاصة ونحن نعيش أيام الذكرى التاسعة لرحيله، حيث كانت المناسبة فرصة لرفع راية الكفاح ضد الانقسام، والذي بسقوطه سيتوفر أهم وأقوى سلاح فلسطيني في مواجهة الإجرام الإسرائيلي المتواصل، وهو الوحدة الوطنية، كما أن نتيجة التحقيق تفرض على السلطة الفلسطينية واجب متابعة التحقيق رسمياً، على المستوى الدولي لملاحقة القاتل الإسرائيلي وعلى المستوى المحلي لكشف العملاء الذين تعاونوا مع القاتل الإسرائيلي، وعدم ترك القضية لأسرة الراحل عرفات، الذي لم يكن شخصاً عادياً أو مواطناً عابراً، بل رحل وهو رئيس وقائد الفلسطينيين، حتى لو أدى ذلك إلى وقف التفاوض و"خرق" التعهد بعدم اللجوء الى المنظمات الدولية خلال تسعة أشهر تفاوضية، حيث أن توقع الإسرائيليين لنتيجة الفحص الطبي ـ ربما ـ كان هو السبب أو أحد أسباب عقد تلك الصفقة التي على أثرها بدأ التفاوض في الثلاثين من تموز الماضي!