تستغل المؤسسة الإسرائيلية تحولات المشهد العربي، وانشغال الإعلام بتلك التحولات، لفرض واقع تهويدي على الأرض في مدينة القدس، وذلك من خلال سياسة الترانسفير الصامت ضد العرب المقدسيين.
ومن الناحية العملية وضعت مخططات إسرائيلية تستهدف جعل اليهود أكثرية ساحقة في الجزء الشرقي من القدس المحتلة عام 1967، بحيث ستعتمد الزيادة المقترحة لليهود في المدينة على استيعاب اليهود القادمين من الخارج، عبر محاولات فتح قنوات للهجرة اليهودية الكثيفة بعد تراجعها من الدول الأوروبية.
هذا فضلا عن الإعلان عن مغريات مالية إسرائيلية لرفع عدد الولادات للمرأة اليهودية المستوطنة في القدس، وذلك بغية ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية لليهود.
وفي الوقت نفسه ستواكب هذه الزيادة لليهود في مدينة القدس وفق المخططات الإسرائيلية سياسات إجلائية مبرمجة إزاء العرب المقدسيين، لترحيلهم بصمت عنها عبر إبطال شرعية إقامتهم في مدينتهم، الأمر الذي سيؤدي إلى الإخلال بالتوازن الديمغرافي لصالح المستوطنين اليهود بالمدينة في المدى المنظور.
إجراءات الطرد الصامت
اتبعت المؤسسة الإسرائيلية إجراءات عديدة من أجل دفع العرب المقدسيين (مسلمين ومسيحيين) إلى خارج مدينة القدس، ومن بين تلك الإجراءات التي تجعل المقدسي يفقد هويته:
- إذا عاش الفلسطيني المقدسي خارج القدس لمدة سبع سنوات متتالية.
- إذا حصل على جنسية أخرى.
- إذا سجل إقامته في بلد آخر.
وتبعا لتلك الحالات فإن دراسات مختلفة تقدر عدد العرب في القدس المعرضين لفقدان بطاقة الهوية العائدة لهم بنحو خمسين إلى ستين ألف عربي، وهذا يعني ترحيلهم من مدينة القدس أو بقاءهم خارجها.
واللافت للنظر أن كافة الإجراءات الإسرائيلية لترحيل عرب القدس وضعت وفق أحكام القانون الإسرائيلي الدقيق والمخططة سلفا، فصاحب الأرض -ووفقا لنسق تطور الملكية والسكان- معرض في أي لحظة لسلب حقه وإقامته، بينما يكفي لليهودي الآتي من دول العالم المختلفة أن يعلن نية القدوم إلى فلسطين حتى يصبح مواطنا في القدس، ولا يفقدها حتى لو غاب سبع سنوات، أو سبعين سنة، أو حمل جنسية أخرى، على عكس العربي صاحب الأرض الذي تفرض عليه قوانين إسرائيلية جائرة، لاستلاب أرضه وتهويدها بكافة الوسائل، خاصة عبر مصادرة مزيد من الأراضي في القدس وبناء المستوطنات عليها لتلف المدينة من كافة الاتجاهات وتعزلها عن باقي المدن والقرى في الضفة الفلسطينية.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن كافة الحفريات وعمليات التجريف التي لم تتوقف البتة في باب المغاربة ومحيط المسجد الأقصى المبارك، وكذلك في حي سلوان، إنما تخدم الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية التهويدية في مدينة القدس، في وقت لم تظهر فيه إلى العلن سياسة عربية وإسلامية جامعة لمواجهة السياسات والإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس.
وتبعا للسياسات الإسرائيلية الاستيطانية التهويدية في مدينة القدس، بات بمدينة القدس 26 مستوطنة إسرائيلية يتركز فيها مائتا ألف مستوطن من اليهود المتزمتين.
وفي مقابل ذلك لا يزال في المدينة ثلاثمائة ألف مقدسي، حيث تسعى المؤسسة الإسرائيلية إلى طرد أغلبيتهم بعد السيطرة على النسبة الكبرى من أراضي القدس.
وفي هذا السياق، ثمة دراسات إسرائيلية أشارت إلى أن إسرائيل تسعى من وراء استصدار القوانين المتلاحقة بشأن القدس لجعل المقدسيين أصحاب الأرض أقلية لا تتجاوز نسبتها 12 % من إجمالي سكان مدينة القدس بقسميها الشرقي والغربي، بحلول عام 2020.
البعد الديمغرافي للجدار
إضافة إلى القوانين العنصرية المذكورة، اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية سلاح الهدم والنشاطات الاستيطانية في مدينة القدس ضمن برنامج مدروس لتقليص وجود الفلسطينيين.
وفي هذا السياق يعتبر الجدار العازل من أهم النشاطات الاستيطانية في القدس، وأدى حتى اللحظة إلى سلخ نحو 125 ألف فلسطيني مقدسي عنها، بينما تهدد المؤسسة الإسرائيلية بسحب الإقامة منهم.
وبالتوازي مع الهدم والتهجير والاستيطان، تواصل (إسرائيل) المشاريع العمرانية وضم الكتل الاستيطانية لفرض أغلبية يهودية بالقدس المحتلة.
وتقدر دراسات مجموع سكان القدس من اليهود بنحو تسعمائة ألف يهودي في عام 2013، منهم مائتا ألف مستوطن يهودي في القدس الشرقية التي تضم نحو 48 ألف وحدة سكنية للفلسطينيين، حيث صدرت أوامر بهدم 22 ألفا منها في الآونة الأخيرة.
واللافت للمتابع أن (إسرائيل) تستغل أجواء المفاوضات وتحولات المشهد العربي، لتمرير مخططاتها بتصعيد وتيرة الهدم والاستيطان ومصادرة مزيد من الأرض والعقارات والمحال التجارية في مدينة القدس.
وفي إطار سياساتها التهويدية بمدينة القدس، كثفت المؤسسة الإسرائيلية من مخططاتها لفرض الأمر الواقع التهويدي في مدينة القدس في السنوات الثلاث الماضية، ومنها مخطط للقيام بعمليات جرف وإزالة آلاف المنازل، بغية كسر التجمع العربي داخل الأحياء العربية بمدينة القدس، مثل حي الشيخ جراح والعيزرية.
ونتيجة تلك المخططات ثمة 35 ألف مقدسي مهددون بالطرد إلى خارج مدينة القدس.
وبعد استصدار القانون الإسرائيلي القاضي بتهويد قطاع التعليم العربي في مدينة القدس، خاصة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، فإن شبح الترانسفير لا يزال يلاحق ثلاثين ألف فلسطيني من القدس للحصول على فرص التعليم في بقية مدن وقرى الضفة الفلسطينية.
وكانت (إسرائيل) طردت 15 ألف مقدسي أثناء احتلالها القدس الشرقية عام 1967، وقبل ذلك تم طرد ستين ألف مقدسي عام 1948 بعد ارتكاب مجازر مروعة في العام المذكور في قرى القدس، وبشكل خاص في قرية دير ياسين التي ارتكبت بحق أهلها مجزرة مروعة في شهر أبريل/نيسان من عام 1948على يد العصابات الصهيونية.
وتستمر حكومة نتنياهو في تسارع مع الزمن في محاصرة مدينة القدس بالجدار العازل.
وفي هذا السياق تشير التقارير إلى أن عمليات البناء في الجدار المذكور حول المدينة المقدسة باتت في نهاياتها، حيث لم يتبقَ من عمليات إتمام الجدار حول القدس سوى خمسين كيلومترا طوليا من أصل 165 كيلو مترا، سيتم من خلالها عزل مدينة القدس ديمغرافيا وجغرافيا عن محيطها العربي في الضفة الغربية.
الدور المطلوب
قد يكون من الأولوية بمكان ضرورة إحياء صندوق دعم القدس وأهلها في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية لطرد العرب المقدسيين (مسلمين ومسيحيين) إلى خارج المدينة، بغية فرض أمر الواقع التهويدي، وكان قد أقر في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2002.
كما تحتم الضرورة فضح السياسات والإجراءات الإسرائيلية بمدينة القدس، من خلال نشر ملفات وثائقية في وسائل الإعلام العربية وغير العربية، بحيث تظهر من خلالها بشكل دوري الإجراءات الإسرائيلية الحثيثة الهادفة إلى طرد المقدسيين.
ناهيك عن ضرورة العمل العربي والإسلامي المشترك في الحقل الدبلوماسي والسياسي، ومطالبة الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بقضية القدس، وفي المقدمة منها تلك التي أكدت ضرورة إلغاء الاستيطان الإسرائيلي في القدس وبطلانه، وكذلك رفض التغيرات الديمغرافية القسرية، والعمل على عودة المقدسيين الذين نزحوا عن المدينة خلال سنوات الاحتلال الماضية.
ومن شأن هذا أن يعزز الخطوات لتثبيت المقدسيين في أرضهم ومحالهم وعقاراتهم، وبالتالي تفويت الفرصة على السلطات الإسرائيلية لفرض الأمر الواقع التهويدي على مدينة القدس عبر الطرد الصامت للمقدسيين، فالمؤسسة الإسرائيلية تستغل الحديث عن المفاوضات مع الطرف الفلسطيني، وكذلك تحولات المشهد العربي والاهتمام الإعلامي به، لتمرير مخططاتها الإجلائية بتصعيد وتيرة الهدم والاستيطان في آن معا.