جيد أن يتخذ الرئيس محمود عباس قراراً بالموافقة على انضمام دولة فلسطين إلى 15 منظمة ومعاهدة واتفاقية دولية، بعد أزمة المفاوضات التي فشلت وكان مصيرها كذلك لمجموعة من العوامل التي ساهمت وأدت إلى النتيجة الحالية.
كان على وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن يقرأ بعناية بالغة ملف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية قبل أن يتحمل مسؤولياته إزاء إطلاق مفاوضات بين طرفين غير متفقين في قضايا كثيرة جداً، والأهم أن الطرف الإسرائيلي شديد التعنت فيما يخص شروطه.
المفاوضات فشلت وكانت تبدو كذلك لأن الأميركان قرروا سلفاً الوقوف إلى جانب إسرائيل ونقل مطالبها وشروطها والتفاوض باسمها أيضاً في هذه المفاوضات التي أمهلها كيري مدة زمنية غير كافية ولا يمكن لها بأي حال الوصول إلى الملفات الشائكة أو ما يسمى بالحل النهائي.
لم يكن ينبغي على كيري أن يتبنى موقف إسرائيل بضرورة أن يوافق الفلسطينيون على يهودية الدولة، ولم يكن ينبغي عليه أن يقبل بالتوسع الإسرائيلي الاستيطاني في حضرة المفاوضات، لأن الأخيرة كانت في حالة انعقاد بين أطرافها بينما كان الاستيطان يجري على قدم وساق.
مع ذلك فإن وزير الخارجية الأميركي اصطف إلى جانب إسرائيل و"بلع الموس" من قبل وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعالون الذي هاجم كيري في أكثر من مناسبة واعتبر خطته للسلام لا تستحق الورق الذي كتبت عليه، ومع ذلك فإن كيري يواصل تأكيد علاقته بإسرائيل.
القرار الفلسطيني جاء في محله وهو رد فعل طبيعي عن كل ما تقوم به إسرائيل، حيث أولاً لم يوافق الإسرائيليون على إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، وتريد إسرائيل هنا إطلاق الأسرى كما يحلو لها.
وثانياً أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن بناء أكثر من 700 وحدة استيطانية في القدس الشرقية، وهذا التصرف الإسرائيلي يعني أن تل أبيب غير معنية بالمفاوضات وتريد من الطرف الفلسطيني أن يقوم بخطوة حتى يفشل المفاوضات وبالتالي يتحمل اللوم على ذلك.
لهذه الأسباب فشلت المفاوضات، لأن إسرائيل قررت أن تقوم بخطوات تعرقل جهود الإدارة الأميركية وتضع الفلسطينيين في حجر الزاوية، على اعتبار أنهم سيقومون باتخاذ خطوات مرتبطة بالفعل الإسرائيلي، الأمر الذي عقد من مهمة كيري فيما يفتح ذلك الباب نحو سيناريوهات مختلفة.
أيضاً لم تضع الإدارة الأميركية النقاط على الحروف حين ساوت بين الضحية والجلاد، حيث قال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرنست إن بلاده تشعر بخيبة أمل من "الأعمال المنفردة غير المفيدة التي صدرت عن الجانبين في الأيام الأخيرة".
لا يا سيد إيرنست كلامك غير صحيح ولا موفق، لأن الاستيطان الإسرائيلي زاد في حضرة المفاوضات وأرادت إسرائيل من ذلك خلق وقائع على الأرض، ومع ذلك لم تحرك الإدارة الأميركية ساكناً وكانت تكتفي بمجرد التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
الآن "تتشاطر" الإدارة الأميركية على الطرف الفلسطيني لأنه قرر الرد على الأفعال الإسرائيلية ومواجهتها في المحافل الدولية عبر ممارسة أبسط الحقوق الطبيعية التي يفترض أن يقوم بها منذ فترة طويلة، مع العلم أن التهديدات الأميركية كانت حاضرة كل الوقت عبر سياسة "العصا والجزرة".
ربما أسرع من الضوء وبعيد القرار العباسي بالانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، قال مشرعون أميركيون إنهم غير راضين عن قرار القيادة الفلسطينية، ومحذرين من أن هذا الإجراء سيعني وقف المساعدات إلى السلطة الفلسطينية.
ويبدو أن الموقف الأميركي يتطابق تماماً مع نظيره الإسرائيلي، وهناك ترتيبات بين الطرفين بشأن ذلك تتعلق بأن الطريق الوحيد للدولة الفلسطينية هو عبر المفاوضات وليس عن طريق ما يسمونه التوجه الفلسطيني أحادي الجانب إلى الأمم المتحدة.
الحقيقة أن الطرف الفلسطيني تحلى بصبر أيوب طوال كل جولات المفاوضات التي عقدت بدون استثناء، وفي الفترة الأخيرة من المفاوضات تحديداً كان شديد المرونة، مع العلم أنه قبل بالتفاوض وهو يدرك أن ذلك يشكل خطراً على سمعة القيادة والسلطة الفلسطينية لأسباب معروفة لدى القاصي والداني، تتصل بالمراوغة الإسرائيلية الدائمة وتعاملها مع المفاوضات وفق مبدأ إدارة الصراع وليس حله.
ومع ذلك فإن لدى إسرائيل مخططاً جهنمياً لم تحد عنه بتاتاً، يتعلق بضمان بقاء الاستيطان مشتغلاً وناهباً للأرض الفلسطينية، وضمان نهاية القدس الشرقية وتهويدها بالأمر الواقع، وعلى الأرجح أن تستأسد إسرائيل وتزيد شراسةً في الآونة الأخيرة من نهب وابتلاع الأراضي الفلسطينية.
وليس صحيحاً أن من خرب المفاوضات هو وحده وزير الإسكان الإسرائيلي أوري أريئيل عبر موافقته على نشر مناقصة لبناء 700 وحدة استيطانية في القدس، وإنما كل إسرائيل وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، جميعهم يتحملون فشل المفاوضات، لأن وزير الإسكان لا يأخذ قراراً مثل هذا وفي وقت حساس دون العودة إلى رئيس حكومته.
على كل حال، يمكن القول إن نتيجة الموقف الفلسطيني بالتأكيد لن تسكت عنها إسرائيل ولا الإدارة الأميركية، وهذا يعني أن على الفلسطينيين التكاتف و"شد الحيل" لتأكيد شرعية ما ذهب إليه الرئيس محمود عباس، عبر إطلاق مسيرات شعبية عارمة تؤكد الحقوق الوطنية الفلسطينية.
إن العامل الشعبي يشكل صمام الأمان بالنسبة للقيادة الفلسطينية، وكلما كان الفلسطينيون متوحدين خلف ثوابتهم، انكشفت العنصرية الإسرائيلية التي تريد مفاوضات لكن دون أن تدفع أي ثمن، والأهم أنها تطالب من الطرف الفلسطيني أن يدفع هو الثمن.
الخطوة التي قام بها الرئيس عباس في محلها تماماً وتشكل مؤشراً على أن الفلسطينيين لن ينتظروا كل الوقت مفاوضات عبثية ومجهولة تلحق بهم الضرر، الأمر الذي يزيد على الفلسطينيين الضغط ليواصلوا نضالهم الدبلوماسي والسلمي على جبهتين.
الجبهة الأولى هي ميدان المحافل الدولية والأمم المتحدة، ومن المهم التحرك الفعلي والجاد للبدء بالخطوات المناسبة لتأمين الوجود الفلسطيني هناك، وأما الجبهة الثانية فتتصل بالحال مع الاحتلال، عبر فضحه و"نشر حبل غسيله الوسخ" في كل مكان.
إن النضال السلمي الهادف إلى فضح إسرائيل سيعزز بالتأكيد ويضاف إلى جبهة النضال الدبلوماسي الفلسطيني في المحافل الدولية، والمهم أننا ابتدأنا هذا المشوار، لكن الأهم كيف سنديره ونخطط له؟