Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

رائحة آذار... محمد علي طه

رائحة آذار...  محمد علي طه

  يُفرحني أن أزور سخنين عشيّة يوم الأرض وفي يوم الأرض لأستعيد ما جرى وما صار في الثّلاثين من آذار، يوم سطّر بنات وأبناء شعبنا في مثلث يوم الأرض ملحمة هذا اليوم الخالد. يوم اغتالوا غول الخوف الذي استوطن صدور غالبيّة أبناء شعبنا منذ النّكبة.

يوم قال شعبنا لرابين وبيرس وايتان: نحن هنا أصحاب الأرض. البطّوف لنا والملّ لنا والهواء لنا. يوم دقّ أبناء وبنات هذه الأقليّة المعجزة على جدار خزّان العالم ليقولوا لحكّام إسرائيل ولشعبها وللحكّام العرب وللشّعب العربيّ من المحيط إلى الخليج: نحن هنا. نحن السّنديانة التي بقيت مغروسة في الأرض على الرّغم من عاصفة النّكبة الهوجاء. نحن الزّيتونة الرّوميّة التي أكل من ثمارها عمرو بن العاص واستظلّ بفيئها صلاح الدين بعد معركة حطّين وبقيت صامدة في التّراب على الرّغم من رياح النّكبة ورياح الصّهيونيّة ورياح الاستعمار ورياح الرّجعيّة العربيّة.

يُسعدني أن أحجّ إلى مثلث يوم الأرض كي أتذكّر أيّام ذلك الشّهر وحملات التّهديد والوعيد من رئيس حكومة إسرائيل ووزير أمنها ومن الدّوائر الحكوميّة ومن المؤسسات الرّسميّة ومن الشّرطة ومن الأمن ومن نقابات العمّال ومن الإذاعة والصّحافة ومن ومن ومن... ومَنْ بقي لم يتوعّد ولم يهدّد؟! يهدّدون العمّال بالفصل من العمل وقطع لقمة العيش. ويتوعّدون المدرّسين بالطرد من جهاز التّعليم. ويهدّدون رؤساء السّلطات البلديّة والمحليّة بزيادة الخنق الماليّ، ويتوعّدون حتّى بعودة الحكم العسكريّ.

في تلك الليلة ما نمنا في المدن والقرى العربيّة. اجتماعات طارئة وتحضيرات وإغلاق شوارع ومطاردات شرطيّة.

الوقوف صباحاً على محطّات الباصات لإقناع بعض العمّال المتردّدين الخائفين على لقمة عيش أطفالهم بأن ينضموا إلى الإضراب. العمل على إقفال المدارس والمصارف والحوانيت.

هاتفني صديق سخنينيّ في صباح ذلك النّهار قائلاً: الأوضاع في سخنين وعرّابة ودير حنّا سيّئة وصعبة. فسألته قلقاً: ألم ينجح الإضراب؟ فقال: الإضراب شامل ولكن هناك معارك في الشّوارع مع قوّات الأمن. هناك شهداء وجرحى ومعتقلون. ردّدتُ ما قاله بطل يوم الأرض: يا شعبي يا عود النَّدِّ.

يُحزنني ويوجعني أن أزور مثلث يوم الأرض عشيّة يوم الأرض وفي يوم الأرض وأعبر مثل غمامة على الملاعب الأسيرة لطفولتي الميعاريّة التي سلبوني إيّاها في ليلة صيف، وشرّدونا أيدي عرب في بلاد العرب التي يتكلّم حكّامها العربيّة بلكنة أمريكيّة.

كلّما مررتُ من هناك، بجانب مدرستي الأولى، بجوار التّينة والزّيتونة والمشمشة والبئر، بجانب «الخرتمانيّة» و«رأس البير» و«برّاد» و«المغراقة» عاد بي الحنين إلى أترابي الذين ما رأيتهم منذ ذلك الصّيف، وحملني الشوق إلى كتابي الأوّل وقلمي الأوّل وكرتي الأولى وبيوت بنيناها من حصى وعيدان ولعبنا بها، ولكنّ رائحة آذار، رائحة الميرميّة ورائحة الزّعتر البريّ ورائحة القندول ورائحة الزّهر والورد والأرض تهمس في أذنيّ: الدّنيا بخير. الدّنيا بخير!!