لا أحد من قريب أو من بعيد في المؤسّسة الإسرائيليّة يعرف الصّبيّ المدلّل المدعو "تدفيع الثّمن".
لعلّه قدم إلينا من صخرة صمّاء أو ربّما انشقّت الأرض وقذفته أو كأنّ جنيّاً تغوّطه أو كوكباً بلا اسم بصقه.
والأمن الاسرائيليّ الذي قصف قافلة سيّارات في السّودان لأنّه عرف حمولتها ووجهتها والذي قبض على سفينة في عرض البحر على بعد مئات الأميال بعد أن تأكّد من محتوياتها لا يعرف هذا الصّبيّ الشقيّ الذي حرق مساجد وكنائس وسيّارات وهدّد وتوعّد بتنظيف البلاد من العرب.
ولا يعرف تعني لا يعرف. دون لفّ أو دوران. صدّقوا أو لا تصدّقوا. ولكن في شهر أيّار 2013 صدر عدد من مجلّة "يسرائيل" التي تصدر عن "معهد بحثّ الصّهيونيّة" في جامعة تل أبيب وفيه مقال مثير للباحثة افرات زكبخ بعنوان "الأعمال الانتقاميّة لمئير هار-تسيون ? واقع وذكريات"، تعتمد فيه على مصادر موثوقة، وذكرت فيه أنّ "شوشانة" وصديقها "عوديد" عبرا الحدود الأردنيّة في العام 1954 في مغامرة لهما وقُتلا هناك، ولمّا علم أخوها مئير هار-تسيون بذلك حمل، وثلاثة من رفاقه، سلاحاً من مخزن الجيش الإسرائيليّ وتوغّلوا في الأراضي الأردنيّة وبعد 9 كيلومترات هاجموا خيمة وأسروا أربعة من البدو الأبرياء وقادوهم إلى الوادي القريب لقتلهم، وفي الطّريق صادفوا خيمتين فهاجموهما وقتلوا بدويّين وأسروا بدويّاً عجوزاً. وتروي الباحثة أنّ هار-تسيون ورفاقه حقّقوا مع البدو الخمسة حول مقتل شوشانة وصديقها ولم يتوصّلوا إلى شيء، وعندئذ طعنوا الرّجال البدو الأربعة بالسّكاكين واحداً بعد الآخر حتّى الموت، وأمّا البدويّ الخامس، أيّ العجوز، فأطلقوا سراحه كي يروي لأبناء قبيلته ما شاهده بأمّ عينيه.
تساءل موشيه شاريت، رئيس حكومة إسرائيل يومئذ، في مذكّراته: "كيف حقّقوا معهم وفهموا أقوالهم وهم لا يعرفون اللغة العربيّة ألبتة؟" وطلب شاريت توضيحاً من الجنرال موشيه ديّان، رئيس الأركان. واتّضح لشاريت أنّ قادة هارتسيون، جندي المظلات، عرفوا مراده منذ البداية إلا أنّهم وبما فيهم أرئيل شارون ساعدوا على اخفاء الجريمة.
وتحوّل مئير هارتسيون إلى بطل قوميّ وترقّى إلى قائد فرقة وبعد تسريحه من الخدمة العسكريّة منحوه مزرعة واسعة شاسعة من الأراضي العربيّة وتطوّع جنود للعمل فيها معتبرين الرّجل قدوة والعمل في المزرعة واجباً قوميّاً.
في شهر نيسان 2014، بعد ستين عاماً، مات مئير هارتسيون فكتب أدباء معروفون، وصحفيون بارزون مراثي تشيد ببطولته كما رثاه رئيس دولة إسرائيل.
وكلمة مئير معناها منير وأمّا هارتسيون فتعني جبل صهيون!!
هل كان هارتسيون رائداً في "تدفيع الثمن"، أم أنّه واحد من قافلة امتدّت منذ قدوم هربرت صموئيل إلى بلادنا حتّى اليوم؟
قال القاضي المعروف، بروفيسور اهرون براك، رئيس محكمة العدل العليا الأسبق: "ما حدث في دولة غوتة وشيللر قد يحدث في كل مكان".