لم تتوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى خلال السنوات الأخيرة، لكن الاقتحامات المتكررة التي شهدنا وما زلنا نشهد فصولها منذ الثامن والعشرين من الشهر الماضي تحمل في طياتها مخاطر حقيقية
في ظل تحولات المشهد العربي وانشغال الإعلام العربي، حيث تسعى المؤسسة الإسرائيلية للإطباق على مدينة القدس وتهويد كافة مناحي الحياة فيها، انطلاقاً من ترسيخ فكرة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك.
ثمة أسباب تشي بانطلاقة انتفاضة فلسطينية ثالثة، حيث تتشابه الظروف السياسية الحالية مع تلك التي سبقت اندلاع انتفاضة الأقصى في نهاية سبتمبر/أيلول من عام 2000، حيث توقفت العملية السياسية بسبب التعنت الإسرائيلي، وارتفعت وتيرة النشاطات الاستيطانية التهويدية في عمق الضفة الغربية والقدس، ولم يحقق الفلسطينيون أياً من حقوقهم الوطنية رغم مفاوضات استمرت لأربعة وعشرين عاماً (1991-2015).
وتبعاً لذلك يطرح المتابعون سؤالاً جوهرياً حول الحواضن السياسية لانطلاقة انتفاضة فلسطينية عارمة، وسبل حماية الأقصى وتثبيت المقدسيين.
التقسيم الزماني والمكاني
تسعى حكومة نتنياهو إلى ترسيخ فكرة تقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانياً ومكانياً بفترة زمنية قياسية، حيث أغلق الجيش الإسرائيلي منذ يوم 28-9 بوابات المسجد الأقصى من الساعة السابعة والنصف صباحاً، وحتى الساعة الحادية عشرة ظهراً، وذلك بالتزامن مع منع دخول النساء والأطفال، في خطوة تمهد لمنع المقدسيين من التواجد في المسجد الأقصى المبارك.
ويؤكد متخصّصون في قضية القدس أن الخطوة التالية بعد ترسيخ التقسيم الزماني، ستكون الانتقال إلى تطبيق التقسيم المكاني، كما حدث في المسجد الإبراهيمي قبل أكثر من عقدين من الزمن.
ولفرض فكرة التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، تحاول "إسرائيل" توسيع أيام التقسيم، لتطال أياماً محددة من العام، عدا الصلوات الخمس، جنباً إلى جنب مع استمرار الاقتحامات للأقصى، عبر تسيير زيارات مؤسساتية ودينية يهودية له، والعمل في ذات الوقت على تغييب الجهات القانونية القائمة على الرباط في المسجد الأقصى المبارك، ناهيك عن إرهاب موظفي الأوقاف الإسلامية من خلال الاعتداء المتكرر على الناشطين منهم، بغية الحد من حركتهم المقاومة لاعتداءات المستوطنين.
خطورة الهجمة الشرسة الأخيرة غير المسبوقة على المسجد الأقصى المبارك من مجموعات يهودية متشددة مدعومة من الجيش الإسرائيلي أنها تزامنت مع تصريحات رسمية من قبل حكومة نتنياهو تدعو إلى منع المسلمين من دخول الأقصى وأخرى تدعو إلى المصادقة على مقترح التقسيم الزماني والمكاني للأقصى وتخصيص أوقات وأماكن لصلوات يهودية فيه. لكن في مقابل ذلك لم تتوقف ردود الفعل الشعبية الفلسطينية الغاضبة، سواء في مدينة القدس وغيرها من مدن الضفة الغربية للدفاع عن الأقصى المبارك.
والمؤكد هو أن اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه من قبل المستوطنين اليهود خلال الأسابيع الأخيرة، يعكس بالتأكيد قرارات اتخذتها حكومة نتنياهو، بغية السيطرة على المسجد وفرض السيادة اليهودية المطلقة عليه، حيث لم تعد فكرة التقسيم الزماني والمكاني مجرد شعار مرفوع، بل باتت أمراً واقعاً، ومقدمة لتهويد مدينة القدس، وفي المقدمة منها المسجد الأقصى المبارك.
مقومات انتفاضة ثالثة
يجمع متابعون على وجود هبّة شعبية في القدس لحماية المسجد الأقصى المبارك من التهويد، هبة لا تقتصر على المرابطين في الأقصى، مع مخاوف مشروعة في ذات الوقت من عدم وجود حاضنة فلسطينية سياسية لاستمرار هذه الهبّة، وغياب حاضنة عربية وإسلامية كما كان عليه الحال إبان انطلاقة انتفاضة الأقصى في عام 2000.
ويرى محللون أن هناك محاولات واضحة من قبل السلطة الفلسطينية لمنع الفلسطينيين من الوصول إلى نقاط التماس مع الجيش والشرطة الإسرائيلية، وذلك في إطار الاتفاق والتنسيق الأمني مع "إسرائيل"، الأمر الذي دعا قوى وشخصيات فلسطينية لوقفه من جهة وإلغاء اتفاقات أوسلو التي جعلت من السلطة الفلسطينية مجرد شرطي في وجه الفلسطينيين من جهة أخرى.
القراءة المتأنية للمشهد السياسي الحالي لا تدفع للتفاؤل كثيرا بشأن إمكانية اندلاع انتفاضة حقيقية يتم استثمارها سياسياً بشكل جيد في ظل ما أسلفنا ذكره، وفي ظل حديث السلطة الفلسطينية عن إمكانية انطلاقة مفاوضات مع "إسرائيل" لأن هناك تضارباً في المصالح، خاصة وأن عملية الاستمرار في فعاليات انتفاضة ثالثة ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات، هذا فضلاً عن استمرار الانقسام البغيض في الساحة الفلسطينية منذ عام 2007.
كما أن الوضع العربي المضطرب يلقي بظلاله سلبياً على إمكانية انطلاقة انتفاضة فلسطينية واستمرارها، لكن المؤكد أيضاً أن كل ذلك لم ولن يمنع المقدسيين والفلسطينيين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وداخل الخط الأخضر وفي أماكن وجود الفلسطينيين المختلفة من الاستمرار في حراك يومي متعدد الأوجه مناهض للسياسات الإسرائيلية الرامية إلى تهويد الأقصى المبارك، والشواهد قائمة على تضحيات الفلسطينيين خلال الأسابيع الماضية دفاعاً عن القدس في مدن الضفة الغربية وغيرها.
إن الحواضن الرئيسية لانطلاقة انتفاضة فلسطينية ثالثة واستمرارها واستثمارها سياسياً، تتثمل بما يلي:
أولاً: تحقيق مصالحة فلسطينية بوقت قياسي بغية تحقيق الإجماع الوطني لمواجهة الهجمة الصهيونية بأسرع وقت ممكن.
ثانياً: إشراك كافة القوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية والقوى الصامتة - أي الشخصيات الاعتبارية والرموز الاقتصادية والأكاديمية والإعلامية - في رسم إستراتيجية لمواجهة مخاطر تهويد المسجد الأقصى ومدينة القدس بشكل عام.
ثالثاً: دعوة الجامعة العربية لعقد مؤتمر طارئ مخصّص لدعم حراك الفلسطينيين مالياً وسياسياً وإعلامياً للدفاع عن المسجد الأقصى وحمايته من التهويد.
تثبيت المقدسيين
ولن يتأتى استثمار أي حراك سياسي في القدس إلا بتثبيت المقدسيين هناك (في القدس)، ولتحقيق ذلك لا بد من إحياء صندوق القدس الذي أقرته الجامعة العربية في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2002.
وكعامل هام لدعم حراك الفلسطينيين لوقف الهجمة الإسرائيلية ضد الأقصى المبارك، لا بد من عمل عربي مشترك -من قبل صناديق المال العربية ذات الصلة- لرفع مستويات التشغيل في صفوف المقدسيين والفلسطينيين، حيث بلغت معدلات البطالة بينهم خلال عامي 2013 و2014 ما بين 50% و60%، نتيجة لكبح الحركة التجارية وحركة العمال بشكل يومي من طرف السلطات الإسرائيلية.
وفي هذا السياق لا يمكن للرأسمال العربي والدولي أن يسهم في تنمية مدينة القدس بشكل خاص، وفلسطين بشكل عام ما لم يتحرك المجتمع الدولي لتوفير مناخ آمن للاستثمار من خلال ممارسة مزيد من الضغوط على "إسرائيل" عبر التحوّل من التنديد والشجب إلى إقرار سياسة أممية للتعامل مع الإجرام غير المتناهي لـ"إسرائيل" بحق المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام.
إضافة إلى ذلك يمكن إعطاء بُعد عربي وإسلامي لقضية القدس وما يتعرّض له الأقصى المبارك من خلال العمل على عقد مؤتمر قمة عربي طارئ مخصص لحماية الأقصى ودعم المقدسيين على كافة الصعد، والإسراع في مطالبة الأمم المتحدة بتطبيق قراراتها المتعلقة بمدينة القدس والمسجد الأقصى وكافة المقدسات، والصادرة منذ عام 1967، والتي تدعو بمجملها إلى وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات، وبطلان التغيرات.
كما يجب الضغط عربياً وإسلامياً لإصدار قرار دولي من مجلس الأمن الدولي ملزم "لإسرائيل" يمنع التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى المبارك، وإدانة كافة الإجراءات الإسرائيلية التي من شأنها تغيير طابع مدينة القدس والمسجد الأقصى على وجه الخصوص.