تواتر الحديث الإعلامي خلال الآونة الأخيرة عن تراجع العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، نتيجة الخلافات حول ملفي الاستيطان والنووي الإيراني، لكن الثابت أن تلك العلاقات لا تزال استراتيجية، وستبقى في سياقها العام، وقد أكد ذلك أكثر من مسؤول في إدارة أوباما، وكذلك سياسيون إسرائيليون من كل الأطياف السياسية.
وفي قراءة متأنية لاتجاهات العلاقات الإسرائيلية مع الدول الغربية، يمكن تلمّس العلاقات الإستراتيجية بين أميركا و"إسرائيل". وفي هذا الإطار، يلحظ المتابع للشأن الإسرائيلي بأن "الحكومات الإسرائيلية" المتعاقبة منذ عام 1948 لجأت إلى الاعتماد على حليف خارجي، له وزنه في العلاقات الدولية، وذلك بغية المزاوجة بين إمكاناتها الذاتية وبين الدعم الخارجي لها، لتعزيز شكل من أشكال القوة، واستثمار تلك القوة في اتجاهين: محاولة استكمال بناء المؤسسات الإسرائيلية مع مرور الوقت، والعمل على توفير المقومات الاقتصادية والبشرية، عبر تهيئة الظروف لجذب مزيد من يهود العالم، والعسكرية الضامنة لبقاء واستمرار "إسرائيل". أما الاتجاه الثاني فيكمن في استحضار القوة للتصدي للتحديات الخارجية لـ"إسرائيل"، ونقصد هنا هاجس الخوف الإسرائيلي من القوة العسكرية العربية المتنامية.
في هذا السياق يذكر أن "إسرائيل" اتجهت إلى التحالف مع فرنسا في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، كمصدر أساسي لتسليحها وتطوير جيشها، كما استطاعت "إسرائيل" بناء علاقة وطيدة مع ألمانيا الغربية سابقاً، واستفادت من الدعم الألماني المتميز في المجالات العسكرية والاقتصادية حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، وسبق تلك العلاقات اعتماد الحركة الصهيونية ووليدتها "إسرائيل" على الدعم البريطاني في المجالات الديبلوماسية والسياسية والعسكرية والمالية أيضاً.
وبعد قيام "إسرائيل" في عام 1948، استطاعت استحضار الحليف الأميركي القوي في إطار العلاقات الدولية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتميزت العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" بخصوصيتها بالمقارنة بعلاقات أميركا مع الدول الأخرى. وبرزت المساعدات الأميركية المباشرة وغير المباشرة لـ"إسرائيل" على أنها السمة الأساسية في إطار العلاقات بين البلدين. ويكمن السبب في الدور الذي تقوم به "إسرائيل" في خدمة المصالح الأميركية السياسية والإستراتيجية في الشرق الأوسط من جهة، فضلاً عن نشاط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ودوره في الحفاظ على التأييد الأميركي لـ"إسرائيل" في كل المستويات من جهة أخرى، فضلاً عن الضغط على المشرّع الأميركي بغية الإبقاء على انسياب المساعدات المالية لـ"إسرائيل".
ويمكن الجزم بأن حرب حزيران (يونيو) 1967 كانت الحد الفاصل بين المرحلة التي كانت فيها "إسرائيل" تلعب دوراً مهماً في إطار المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، والمرحلة التي أصبحت تلعب فيها الدور الرئيسي في إطار هذه المصالح، الأمر الذي ترك بصماته على علاقات الولايات المتحدة المتميزة وغير العادية مع "إسرائيل".
ومن المهم الإشارة إلى أن "إسرائيل" موّلت حروبها وعدوانها على الدول العربية بالاعتماد على المساعدات الأميركية السنوية اللوجستية والطارئة، فقد تجاوبت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1948 مع الإستراتيجية التي تقوم على تطوير التحالف مع "إسرائيل" وترسيخه في مختلف الميادين، وتجلى ذلك بالدعم الأميركي لـ"إسرائيل" في الأمم المتحدة واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أية محاولة لاستصدار قرار يدين ممارسات "إسرائيل" واعتداءاتها المتكررة على الدول العربية والشعب الفلسطيني.
من أهم ملامح الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" على المستوى السياسي والديبلوماسي، سياسة الضغط المستمر على المنظمة الدولية التي أجبرتها على إلغاء قرارها الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، بيد أن المساعدات الأميركية برزت بكونها السمة الأهم في إطار الدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، فحلَت تلك المساعدات العديد من الأزمات الاقتصادية الإسرائيلية مثل التضخم في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، كما حدّت من تفاقم أزمات اقتصادية أخرى، وساهمت في تمويل هجرة يهود العالم ‘لى فلسطين المحتلة، وبخاصة من دول الاتحاد السوفياتي السابق منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، ناهيك عن أثرها المهم في تحديث الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتجهيزها بالتكنولوجيا الأميركية المتطورة من طائرات وغيرها، وبالتالي تمويل العدوان الإسرائيلي على الدول العربية، وقد توضّح ذلك خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف العام 2014، حيث أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى تقديم إدارة أوباما مساعدات مالية وعسكرية طارئة لـ"إسرائيل" خلال حربها على القطاع.
لقد وصلت قيمة المساعدات الأميركية اللوجستية السنوية لـ"إسرائيل"، وكذلك المساعدات الطارئة، خلال الفترة بين 1948 و2014 إلى 119 بليون دولار، منها نحو 60 في المئة هي نسبة المساعدات العسكرية، و40 في المئة نسبة المساعدات الاقتصادية، ويقدّر أن تصل قيمة المساعدات الأميركية الحكومية المباشرة لـ"إسرائيل" إلى 122 بليون دولار نهاية العام الحالي. وإذا احتسبنا المساعدات غير المباشرة من الولايات المتحدة والجالية اليهودية لـ"إسرائيل" منذ قيامها، فإن قيمة المساعدات الإجمالية تصل إلى نحو 150 بليون دولار خلال الفترة المذكورة سابقاً.
يبقى القول إن استمرار العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" سيبقى مرهوناً بالدور الرئيسي الذي تلعبه الثانية في خدمة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، والحديث عن تحولات وانحدارات في تلك العلاقة نتيجة تباينات في المواقف إزاء بعض الملفات هو ضرب من الخيال في المدى المنظور.