الحملة الجوية المزعومة، التي تقودها أميركا على رأس «تحالف دولي» في العراق وسوريا، تحوي مفارقات لا يمكن تفسيرها أو عقلنتها، وهي أسئلة بدأ النقاش حولها يموج حتى في أميركا، بين العسكريين والخبراء.
السؤال باختصار هو: كيف يمكن للطيران الأميركي، الذي سبق أن حطّم جيوشاً ضخمة خلال أيام من القصف، وقلب الوضع العسكري في ليبيا لحظة تدخّله، أن «يضرب» تنظيماً كـ«داعش» لشهورٍ متواصلة من غير أن يترك تأثيراً حقيقياً، أو تنهار الميليشيا المعادية؛ بل إنّ «داعش» تمكّن من الثبات في مواقعه وشنّ هجمات توسعية؟
لم تعد بيانات وادعاءات قيادة التحالف عن قتل «الآلاف» من مقاتلي التنظيم (وهي معلومات ليس بامكانهم الحصول عليها والتيقن منها من الجو) مقنعة، وتكريس عين العربكوباني كملحمة و«إنجاز» مزحة سمجة. تمّ تركيز القوة الجويّة للتحالف، لأشهر، لإخراج «داعش» من بلدة حدودية مهجورة، هي بحجم حيٍّ صغير في تكريت أو الموصل. من هنا انطلق ريك فرانكونا، وهو عقيد متقاعد في سلاح الجو الأميركي، حين كتب مقالاً يشكك في فعالية الحملة الجوية.
أعطى فرانكونا مثالاً عملياً عن قرية آشورية في منطقة الحسكة، هاجمها «داعش» بموكب من أكثر من أربعين عربة مسلّحة، تقدّم مكشوفاً عشرات الكيلومترات، واحتل البلدة وأسر نساءها وأطفالها تحت عين التحالف، فكيف يحصل ذلك؟ هذه الأسئلة كرّرها جنرالٌ متقاعد، اسمه دايفيد ديبتولا، في مقابلة مع «راديو أميركا»، قال فيها إنّ تأثير الحملة الجوية لا يعكس إلا «نسبة ضئيلة» من القدرات الأميركية.
بحث هؤلاء عن تفسيرات «حسنة النية» لانتفاء الفعالية العسكرية، طارحين عوامل كالبيروقراطية ومركزية القرار، إذ يقول الطيارون إنّهم لا يُعطون الإذن بالقصف إلا بعد أن يشاهد جنرالٌ الهدف على شاشةٍ أمامه، ثمّ يجيز الضربة. وقد قال أحدهم لفرانكونا أنّه وجد نفسه يحلّق لساعات فوق قوات لـ«داعش» ترتكب جرائم، وهو ينتظر الإذن بالتدخّل.
السّبب الحقيقي لهذا العجز واضحٌ وبسيط، وهو أنّ الضربات رمزية ومتناثرة وقليلة، وهي لم تصمّم أساساً كحملة لتدمير تنظيم «الدولة» أو أذيته بشكلٍ جديّ. يعقد الجنرال ديبتولا مقارنة بين الحملة الجوية ضد العراق عام 1991، حين كان المعدّل أكثر من 3000 طلعة و1100 هجوم في اليوم، مع الحملة الحالية التي يوازي عدد ضرباتها الإجمالي، بعد ستة أشهر، يومين من أيام الغارات ضد الجيش العراقي. خمس إلى سبع ضربات في اليوم لا تكفي لقهر عصابة مخدرات مكسيكية، ناهيك عن تنظيم عسكري كبير.
يمكننا أن نفهم، من هنا، الاستراتيجية الأميركية الحقيقية خلف تأسيس «الحلف»، ومعنى تصريح القادة الأميركيين، الصيف الماضي، بأن قهر «داعش» سيستلزم حرباً تمتد لسنوات. السنوات الثلاث هي، فعلياً، الفترة التي تحتاجها واشنطن لتأسيس جيشٍ لها في كردستان وبين عشائر العراق، كما تفعل حالياً في سوريا، بهدف بناء تشكيل عسكري يشبه «تحالف الشمال»، يتبع لها، ويقاتل مع طيرانها، ويخوض معاركها في المستقبل.
همّ أميركا ليس هزيمة «داعش»، بل استخدام الأزمة للدخول مجدداً إلى العراق وتثبيت بنية عسكرية دائمة في المنطقة. في جلسة أخيرة للكونغرس، لم يدافع جون كيري عن الحرب من منطلق نجاحاتها أو ضرورتها، بل تباهى بأن «خمس دولٍ عربية سنية» تشارك، لأول مرّة، في حلف أميركي يضرب دولاً أخرى في المنطقة. حين يدحر العراقيون «داعش» بأيديهم، فهم أيضاً يهزمون عدواً أخطر وأخبث وأقوى شكيمة، ويحطمون آماله وخططه.