منذ أن سيطرت إسرائيل على القدس الشرقية في الخامس من حزيران عام 1967 لم تخف الحكومة الإسرائيلية بذاك الوقت اهتماماتها في المدينة المقدسة وسعت سريعاً إلى تغيير المدينة المقدسة ومحو طابعها العربي والإسلامي
فهدمت حي المغاربة الملاصق للجدار الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك والمعروف بحائط البراق، وأقامت على أنقاض الحي ساحة "المبكى". كما هدمت أجزاء واسعة من حارة الشرف في البلدة القديمة وأقامت حياً يهودياً كبيراً. كما أقامت أحياء يهودية خارج أسوار القدس العتيقة، أحاطت المدينة المقدسة من كل جوانبها. وكانت خطوتها السريعة هذه بادعاء أن القدس الموحدة لا فرق بين شطريها تتويجاً لسيطرتها الكاملة على القدس الشرقية.
وبالتوازي مع خطوات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للعمل على تغيير ملامح القدس الشرقية قامت جمعيات استيطانية يهودية يمينية بالعمل على الإستيلاء على أكبر عدد ممكن من العقارات العربية خاصة داخل البلدة القديمة وبالذات في الأحياء المجاورة للمسجد الأقصى المبارك. ونجحت تلك الجمعيات بطرقها الخاصة لإنجاح مخططاتها بالإستيلاء على العديد من المنازل والمحال التجارية. وكانت تلك الجمعيات تتلقى ملايين الدولارات تبرعات من يهود أثرياء في الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة وذلك لتمويل مخططاتها تلك، ويقع إسم المليونير اليهودي الأميركي "إيروين موسكوفيتش" في طليعة أولئك المتبرعين.
وقد قدمت الحكومات الإسرائيلية لتلك الجمعيات الدعم الكبير واللامحدود لمشاريعها الساعية إلى السيطرة على الأحياء العربية خاصة في الحي الإسلامي وبالذات في حارة السعدية وحي الواد وباب السلسلة وعقبة الخالدية وحي القرمي وفي منطقة باب الخليل حيث استولت على فندق كبير فيه.
وفي الوقت الذي كان فيه المستوطنون اليهود يحصلون على كافة التسهيلات في المدينة المقدسة من الحكومات الإسرائيلية ومن الجمعيات المتعددة الأسماء والموحدة الهدف كانت تلك الحكومات بالتعاون مع بعض المؤسسات الحكومية تقوم بالتضييق على المقدسيين من خلال عدم إقامة أية مشاريع سكنية لهم ومن خلال عدم إعطائهم رخص بناء إلا في القليل القليل، ومن خلال هدم العديد من العمارات والمنازل بذريعة عدم الترخيص علماً أن الحصول على رخصة بناء يكاد يكون مستحيلاً، حيث إذا ووفق على تلك الرخصة فإن تلك الموافقة تستغرق سنوات لإخراجها وتحتاج أموالاً طائلة لا يستطيع العدد الأكبر من المواطنين المقدسيين دفعها.
والغاية من تلك السياسات الإسرائيلية هي جعل المواطنين المقدسيين أقلية في مدينتهم وجعل اليهود أغلبية في القدس، هذا عدا عن التضييق على المقدسيين في كافة المجالات المعيشية من حيث الضائقة السكنية والأوضاع الإقتصادية في غاية السوء، وكذلك البطالة المتفشية في صفوف المواطنين المقدسيين، إضافة إلى تدهور الأوضاع الصحية في المدينة وانتشار ظاهرة الإدمان على المخدرات بين العديد من الشباب، هذا عدا عن وجود الجريمة المنظمة وظاهرة تبييض الأموال.
ورغم هذه الأوضاع المزرية للمواطنين المقدسيين، ورغم أن المدينة المقدسة تتعرض للخطر فإن هذه المدينة ومواطنيها تركوا وحدهم ليواجهوا مصيرهم وليعانوا من أوضاع غاية في الصعوبة ومن ضائقة عيش شديدة. حيث أن الأشقاء العرب والمسلمين لم يقدموا للمقدسيين سوى عبارات الدعم الكلامي الذي لا يرى النور ولا ينفذ على أرض الواقع. وحتى المبالغ المالية الضئيلة التي قررتها القمم العربية المتعددة لدعم القدس والمقدسيين ظلت حبراً على ورق وبقيت جليسة جدران الجامعة العربية، ولم يصل منها دولاراً واحداً للمقدسيين. إن مبلغ الخمس مئة مليون دولار التي قررتها قمة مدينة سيرت الليبية لدعم القدس والمقدسيين لم يصل منها دولاراً واحداً حتى الآن.
ورغم أن دولاً عربية تمتلك المليارات ورغم أن هناك أثرياء عرباً يملكون مليارات أيضاً فإن القدس لم تحظ بدولار واحد من تلك المليارات، بينما نرى أن أميراً عربياً عرض على عارضة أزياء أميركية مليون دولار مقابل أن تجلس معه إلى مأدبة عشاء. إن دولاً عربية وإسلامية ثرية تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع عديدة من شراء فنادق وأندية رياضية ووسائل إعلامية وقنوات فضائية وملاهي، بينما لا تستثمر فلساُ وحداً في القدس للمحافظة على المدينة المقدسة ودعم صمود مواطنيها المقدسيين. فلم تبن مستشفى واحداً ولم تقم مشروعاً إسكانياً واحداً، اللهم إلا مشروع إسكان المعلمين في بيت حنينا الذي مولته الإمارات العربية المتحدة والذي تعثر سنوات طويلة قبل أن يرى النور. ولم تنشئ مدرسة واحدة ولا معهداً ولا جامعة ولا حديقة عامة، بينما ترى أسماء أثرياء يهود من كافة أنحاء العالم ترتفع فوق ما موّله من حدائق ومعاهد وعيادات ومستشفيات وما شقوه من شوارع في مناطق متعددة من القدس الغربية وكذلك في القدس الشرقية.
لقد سمع المقدسيون الكثير الكثير من الوعود العربية والإسلامية من خلال جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لإقامة العديد من المشاريع في القدس الشرقية لدعم المقدسيين وللحفاظ على طابعها العربي والإسلامي، ولكن لم يروا شيئاً ينفذ من تلك الوعود وأصبح لسان حالهم يردد الآيتين الكريمتين من سورة الصف حيث يقول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون". ومن تلك الوعود أن هناك مشاريع لإقامة وقفيات يخصص ريعها لدعم المقدسيين لم تخرج إلى النور، وقد عاد الحديث مؤخراً عن العزم على إقامة "صندوق وقفية للقدس" بقيمة مليار دولار ثم جمع خمسين مليون منها حتى الآن من متبرعين أغنياء وبنوك ومؤسسات فلسطينية على أن يتم جمع المبلغ الباقي من رجال أعمال عرب.
والذي يرجوه المقدسيون ألا يكون الحديث عن هذا الصندوق كغيره من المشاريع التي أعلنت ثم فارقت الحياة قبل أن ترى النور، إذ أن المقدسيين شبعوا وعوداً كثيرة فكانت سراباً لا ماءً زلالاً. فإذا تم جمع مبلغ ضئيل من المليار دولار فمن يضمن أنه سيتم جمع أكثر من 900 مليون دولار لصندوق الوقف هذا؟
إن القدس بحاجة إلى دعم مالي كبير لا يستطيع أفراد ولا مؤسسات النهوض به بل يجب أن تشرف عليه الحكومة الفلسطينية بالتنسيق والتعاون مع جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وأن يضم شخصيات عربية وإسلامية مشهوداً لها بالكفاءة والنزاهة ونظافة اليد إضافة إلى شخصيات مقدسية. وأن يتم وضع مشاريع قابلة للتنفيذ في كافة المجالات الإقتصادية والإجتماعية والصحية والتعليمية والسياحية، وأن تقدم دراسة جدوى لتلك المشاريع وأن تخصص لها الميزانيات وذلك بعد إنشاء صندوق يحمل اسم "صندوق دعم القدس والمقدسيين". وأن تعلن ميزانيته على الملأ، وأن يقدم سنوياً كشف بالمشاريع التي نفذها والمشاريع التي سينفذها.
إن رجال الأعمال العرب جميعاً مدعوون للإستثمار في القدس في كافة المجالات في السياحة والإسكان والتعليم والصحة وإقامة المصانع والمشاريع الزراعية ليس في القدس فقط بل وفي الضفة الغربية أيضاً، حيث مجالات الإستثمار واعدة وكبيرة. ومن هنا فإننا نرحب بزيارة الأمير الوليد بن طلال لفلسطين حيث جاءت هذه الزيارة لدعم الفلسطينيين عامة والمقدسيين خاصة، كما أننا نشيد باستقبال الرئيس محمود عباس للأمير ومنحه وسام نجمة الشرف العليا.
ولا بد من الترحيب بإعلان الرئيس عباس أنه تم الإتفاق مع الأمير الوليد على تقديم مشاريع لشعبنا الفلسطيني وبتصريح الأمير الوليد بأن زيارته لفلسطين هي لتأكيد التعاون والتحالف الإستراتيجي بينه وبين دولة فلسطين في النطاق الإستثماري والإنساني ونطاق الخير. وقد أكد نائب رئيس الوزراء للشؤون الإقتصادية محمد مصطفى أن لقاء الأمير مع عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين بحضوره وحضور عدد من الشخصيات الوطنية والإقتصادية ركز على القضايا الإقتصادية خاصة دعم مدينة القدس واحتياجاتها سواء على صعيد دعم صمود أبناء شعبنا في المدينة المقدسة أو على الصعيد الإستثماري، علماً أنه لم يكن مدعوا أي رجل أعمال مقدسي مقيم بالقدس واستثماراته فيها مع التمني لنائب رئيس الوزراء بأخذ الحيطة بالمناسبات وهي القادمة حتى لا يتغيب القدس والمقدسيين عن الأنظار، ولا شك أن زيارة الأمير الوليد بن طلال لفلسطين حظيت بموافقة الأسرة السعودية المالكة التي تواصل دعمها لميزانية السلطة الفلسطينية من بين دول عربية حليفة وفت وما زالت تفي بالتزاماتها المالية للسلطة الفلسطينية، والذي نأمله أن تكون زيارة الأمير الوليد بداية لإستثمارات سعودية وخليجية في فلسطين بعامة وفي القدس بخاصة، لأن من شأن تلك الإستثمارات النهوض بالإقتصاد الفلسطيني ودعم الشعب الفلسطيني عامة والمقدسيين منه خاصة. ونرجو أن تكون هذه الزيارات مقدمة لزيارة أثرياء عرب آخرين من مختلف البلدان العربية، وأن يقيموا بالتعاون مع رجال الأعمال الفلسطينيين مشاريع استثمارية واسعة في كافة المجالات خاصة وأن القيادة الفلسطينية ترحب بتلك الإستثمارات وتمهد لها وتقدم لها كل التسهيلات، كما أن أرض فلسطين زاخرة بالأيدي العاملة وبرجال الأعمال الذين لديهم الإمكانات الواسعة ومستعدون للتعاون مع نظرائهم العرب.
وفي الختام فإن دعم القدس والمقدسيين لا يكون بالأقوال بل بالأفعال على أرض الواقع ولا يستطيع ذلك أفراد ولا مسؤول واحد ولا وزير ولا محافظ ولا لجنة شؤون القدس بالقيام بذلك الدعم، بل لا بد من مؤسسة عربية إسلامية........ والله الموفق.