لا يبدو حديث وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في ختام جولته للمنطقة، يوم الجمعة الماضي، عن وجود تقدم لم يحدث منذ سنوات، على صعيد عملية التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، له أية علاقة بالواقع، بقدر ما يجيء كأحد أشكال الضغط على الجانب الفلسطيني،
خاصة، حتى يقبل ما يبدو أن واشنطن قد توصلت بشأنه مع تل أبيب، مما يسمى باتفاق إطار، يستكمل التفاوض في سياقه حتى أيار المقبل، للتوصل إلى حل انتقالي جديد، قد يستمر بالواقع الفلسطيني مع وجود الاحتلال سنوات أخرى إضافية، ولكن مع "موافقة" فلسطينية، هذه المرة!
الرد على تصريحات جون كيري جاء من وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، قبل يوم واحد من لقاء الرجلين، وبعد يوم من تصريحات كيري "المتفائلة"، وبغض النظر عن رأي هذا أو رأي ذاك، ورغم التعتيم الإعلامي المتبع بشأن المفاوضات، إلا أن الرأي العام الإسرائيلي، خاصة الإعلامي منه يبدو أنه أكثر اطلاعاً على ما يجري من الإعلام أو الرأي العام الفلسطيني، حيث تواصل الصحف الإسرائيلية "تسريب" الأخبار بالخصوص، لأكثر من هدف، فيما يبدو أن الجانبين الأميركي والإسرائيلي اللذين وجدا نفسيهما في مواجهة سياسية حول الملف الإيراني بعد اتفاق جنيف/ إيران، قد وجدا ضالتهما في "التعويض" والتقارب مجدداًً عبر الملف الفلسطيني.
ومن الواضح أن واشنطن التي ذهبت بعيداً في الملف الإيراني في نظر إسرائيل، آخذة بتقديم "التنازلات" لتل أبيب، منذ التوقيع على جنيف/ طهران، فحتى لقاء كيري/ ليبرمان يعد تنازلاً أميركياً بالنظر إلى أن وزير خارجية أميركا السابقة هيلاري كلينتون، ظلت تصر على عدم الالتقاء مع ليبرمان طوال فترة توليها مسؤولية الخارجية الأميركية.
ثم بعد ذلك فيما يخص الملف الفلسطيني، يبدو أن الحوار قد انحصر بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، حيث تبدو واشنطن في حالة ضعف في هذه اللحظة تجاه إسرائيل، والدليل أنها توافقت مع المطلب الإسرائيلي بتقديم الجانب الأمني على الجانب السياسي في المفاوضات، وبالتالي الحديث عن اتفاق إطار، يأخذ بعين الاعتبار الترتيبات الأمنية التي تطالب بها إسرائيل، ومن ثم الانتقال للتفاوض في ملفات الانسحاب، الحدود، المستوطنات، القدس واللاجئين، وكل الملفات، وهذا يعني: أولاًً أن التفاوض لن يؤدي الى حل سياسي - فوري على الأقل - يحقق حل الدولتين، بل إلى حل انتقالي، تبقى فيه السلطة الفلسطينية، سلطة حكم ذاتي، ما دامت لا تتولى السيادة على الحدود الخارجية، ولا على الجو، وما دام الحديث يجري عن "دولة" منزوعة السلاح، كذلك عدم التوصل لحل من شأنه أن يجعل من القدس عاصمة للدولتين، فضلاً عن حل ملف اللاجئين، حتى على أرض الدولة الفلسطينية، أي باختصار، فإن أفق الرعاية الأميركية للمفاوضات، قد اتضح تماماً، بعد أن تدخلت واشنطن للخروج من الاستعصاء بين الجانبين، وقد تحدد سقفه، في مواصلة التفاوض وفق اتفاقية إطار أمنية، بهدف التوصل لحل انتقالي، في تفاصيله، يكون الفلسطينيون بين خيارين: إما الموافقة على تأجير الأغوار لإسرائيل لعدة سنين أو الموافقة على وجود قوات دولية، من بينها قوات إسرائيلية (ما زال الخلاف هنا، فالسلطة توافق على وجود قوات دولية، وترفض أي وجود عسكري إسرائيلي)، كذلك وجود محطات إنذار إسرائيلية، في مختلف مناطق الضفة الغربية، مع حق إسرائيلي باستخدام الأجواء الفلسطينية، وفقط يمكن للفلسطينيين أن يكسبوا، وقف الاستيطان على الأراضي الفلسطينية، لكن حتى هذا الأمر، ليس واضحاً الآن، بل سيكون مرهوناً بالتفاوض، أي إلى أي مدى ستنسحب إسرائيل، إلى حدود الرابع من حزيران، فيما يخص حدود الضفة الغربية من الجهة الغربية، أي جهة الخط الأخضر، وأن الوجود الإسرائيلي أو الدولي في الغور سيقتصر على الوجود العسكري ولن يتخلله بناء استيطاني، وطبيعي أن يكون هنالك انسحاب إسرائيلي من أراض في الضفة لتسويق الاتفاق ولدفع عجلة الاستثمار والاقتصاد الفلسطيني، حتى يمكن القول إن الصفقة كانت باختصار، أمناً مقابل اقتصاد. وأخطر ما في الأمر، أن معنى كل هذا أن الكفاح الفلسطيني، بما في ذلك الكفاح الدبلوماسي في المنظمات الدولية، من أجل إقامة الدولة المستقلة سيتوقف خلال سنوات طويلة، يكون العالم كله قد نسي هذا الملف برمته!
الجانب الفلسطيني، في كل الأحوال ليس مضطراً أبداً أن يقبل نتيجة "التفاوض" بين الإسرائيليين والأميركيين، وليس معقولاً أيضاً أن يدفع ثمن الخلاف الأميركي/ الإسرائيلي في الملف الإيراني، ولا حتى أن يدفع ثمن المخاوف الإسرائيلية، حتى لو كانت محقة، من امتلاك إيران لقنبلة نووية، وإذا شعرت إسرائيل بعدم الثقة أو بالمخاوف من العالمين العربي والإسلامي، وحتى تضمن "أمنها" فعليها أن تخرج من فلسطين، وأن تحل المشكلة مع صاحبها، أي الجانب الفلسطيني، حينها لن يكون بمقدور أي عربي أو مسلم محاربة إسرائيل، بدافع الانتصار لفلسطين.
وربما كان هذا المنحى الذي تنزلق إليه المفاوضات، حالياً، هو الذي دفع الفريق الفلسطيني المفاوض إلى تقديم استقالته في وقت سابق، حيث بات من العبث البقاء في هذا المجرى التفاوضي، وأن يصمد الفلسطينيون في وجه أميركا وإسرائيل معاً، خاصة بعد أن يتفقا على هذا الإطار من الحل، وهناك بديل عملي وممكن، وهو الذهاب إلى جنيف/ فلسطيني، تشارك فيه روسيا والاتحاد الأوروبي، بدل أن تبقى واشنطن راعياً وحيداً، منحازًا لإسرائيل، تستسهل دفع ثمن الخلاف بينهما من الجيب الفلسطيني، وحقاً إذا أراد الكبار الدوليون تحقيق توازن سياسي في المنطقة بين مصالحهم، فلا بد أن يجتمعوا جميعاً للبحث والتفاوض من أجل حل كل ملفاتها، وليس بعض هذه الملفات وحسب!