أمام ما يجري من تطبيع بطرق ووسائل مختلفة ابرزها اتفاقية استيراد الغاز الإسرائيلي من خلال اتفاقية وقعت السلطة الفلسطينية اخيرا عليها، في وقت ما تزال فيه دولة الاحتلال تسطو على المال العام الفلسطيني وتحتجز حقوق شعبنا المالية،
حيث تتعالى فيه الأصوات لمقاطعة كافة أشكال المنتجات الإسرائيلية، بينما يواجه الشعب الفلسطيني الاستيطان الصهيوني، فإننا نستطيع القول أن هذه الاتفاقية تمثل التطبيع مع هذا الكيان ومؤسساته.
وفي ظل هذه الصفقة المرفوضة من الشعب الفلسطيني وكافة القوى نؤكد على اهمية مقاومة التطبيع مهما كان نوعه، لأن ذلك سيفتح الباب على الاندماج الاقتصادي والتجاري والسياحي، وجميع هذه العناوين هي ممارسات تطبيعية مع الصهيونية، حيث يعني تطبيع الكيان الصهيوني في المنطقة قبول وجوده كحالة دائمة تبررها ذهنية الواقعية السياسية التي يتم تعزيزها في نظام العلاقات الدولية، ونجاح مسعاه النهائي في انتزاع الاعتراف بمشروعيته من خلال إزالة أي تهديد على كيانه وحصرها في بنود الخلافات القابلة للحل سياسياً، والمضي معه في شراكات تنهي حالة الصراع إلى حالة علاقات دول تعترف ببعضها البعض وتبحث عن مجالات لعلاقات متبادلة، وتبقى الخيارات المستقبلية ضمن هذه العملية بالتالي محصورة في أفقها، ضامنة للمشروع الأساسي الذي أنتجها، وهو الكينونة الصهيونية المتمثلة في دولة الاحتلال ومشاريعها المستقبلية بعد أن حسمت ماضيها، وهو ما يعني بالتالي حرمان شعوب المنطقة من حقها في أرضها وفي تشكيل خياراتها الحرة عليها وإقرارها أو دفعها تدريجياً إلى الإقرار بفقدان هذا الحق.
ان ما جرى خطير جداً، لأن ما جرى يحظى بدعم مادي من شرائح النخب الاقتصادية الموكل لها التنفيذ العائد بالربح، وتطرح هذه المنظومة بالتالي فرصاً سياسية واقتصادية لتجديد بنية السلطة في ظل افتقاد المجتمع للقدرة على إنتاج سياقات بديلة بعد أن تداخلت المصالح "الوطنية" مع مصالح الاحتلال وتم تفريغ التناقض داخل المجتمع بدلاً من التناقض مع الاحتلال، تنتج هذه البنية الفوقية خطاباً وممارسة سياسيين مغايريين، وتنتج تدريجياً وعياً مغايراً بالاحتلال، يقفز عنه إلى ما بعده دون انتهائه.
لذلك يتوجب ان نسأل في ظل هذا الواقع تحديداً ما يحتم على جميع القوى الانخراط في مقاومة التطبيع ان تتبني فكر مقاوم لسياسة التطبيع، من خلال وضع أدوات مقاومة التطبيع بكافة اشكالها السياسية والتجارية والثقافية مع الكيان، إنطلاقاً من هذه القناعة، التي تتطلب ـدوات نضالية تتجاوز المقاطعة كأداة ضغط إلى مربع العمل المبادر إلى الاشتباك، فكيف لنا أن نعزز من بنائنا الاجتماعي العضوي في المنطقة باعتباره الحاضنة الشعبية المنتجة للعمل المقاوم الفعال ومواجهة بعض اركان السلطة المستفيدين من التطبيع والمؤدي في النهاية إلى تفريغ الجهد من مضمونه.
ان مقاطعة اي اتفاقية قد تكون واحدة من ضمن آليات أخرى كثيرة لتحقيق استراتيجية رئيسية في مقاومة التطبيع مع كيان العدو، وينبغي أن تكون الاستراتيجية هي إنهاء الظلم التاريخي الناتج عن المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، أي تصفيته، هذا يتطلب جهداً داعماً على المستوى الاممي وعلى صعيد القوى المناهضة للظلم والاستعمار والامبريالية، لأن مواجهة "إسرائيل" تعني وبالضرورة مواجهة القوى الدولية الكبرى المساندة لها والمرتبطة بها عضوياً (وفي مقدمتهم الادارة الاميريكية وحلفائها)، ومواجهة النظام الاقتصادي الاستغلالي الهيمني الذي تمثله (الرأسمالية) لذلك نؤكد على ضرورة مواجهة المشروع الصهيوني والتمسك بخيار المقاومة الشعبيه بكافة اشكالها بما فيها مواجهة التطبيع، لا الوصول إلى تسويات معه على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
ان توقيع اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني تشكل خطورة فاضحة ونحن نخوض غمار معركة وطنية افتتحتها اللجنة الوطنية العليا في مواجهة سياسة السطو اللصوصي على المال العام الفلسطيني، وخاصة بعد دعوة اللجنة الوطنيه العليا الى مقاطعة البضائع الاسرائيلية، والتي استجابت لها اوساط فلسطينية واسعة، وهذا يتطلب الغاء اتفاقية استيراد الغاز المذلة والمهينة والبحث مؤقتاً عن مصدر آخر لاستيراد الغاز الطبيعي ريثما ينجز الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله ويمارس حقه السيادي في استغلال ثرواته الطبيعية بما فيها الغاز الطبيعي باعتبار فلسطين على ابواب التحول الى دولة منتجة للغاز.
انَّ الوعود بتوقيع الاتفاقات مع العدو الصهيوني تعتبر مخادعة للشعب الفلسطيني، وان هذه الاتفاقات هي اذعان حول الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني و"السلام" الإقليمي ظهرت على حقيقتها جراء الحروب التي أشعلها العدو الإسرائيلي والمجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، وتتماهى مع تمزيق الوطن العربي والقضاء على دول المنطقة وبث الطائفية والمذهبية والعرقية لتفتيت الدول العربية الكبيرة وإعادة تركيبها بما يخدم مشروع الشرق الأوسط الجديد وهيمنة الكيان الصهيوني على الوطن العربي.
وفي ظل هذه الاوضاع نرى اهمية استنهاض دور كافة الفصائل والقوى وطاقات الشعب الفلسطيني، واستنهاض طاقات الشعوب العربية وقواها التقدمية والثورية لترفع صوتها لقطع العلاقات ووقف التطبيع وإلغاء اتفاقية الغاز بين السلطة الفلسطينية والكيان الاسرائيلي ومناهضة المشاريع الصهيونية والإمبريالية والتمسك بعروبة فلسطين والحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب العربي الفلسطيني وفي طليعتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم بموجب القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
إن المطالبة بإسقاط اتفاقية الغاز هو جزء من عملية مواجهة التطبيع وفق القواعد الديمقراطية وهذا مطلب عادل وحضاري ومحق ويتماشى مع روح العصر ومع أبسط المفاهيم الديمقراطية التي تفرض نفسها يوماً بعد يوم على ارض الوطن، وهو جزء من تكريس خيار المقاومة الشعبيه وتعزيز ثقافتها في مواجهة كيان استعماري استيطاني غريب عن المنطقة، دخيل عليها، جاء من وراء البحار بدعم وتأييد كاملين من الدول الاستعمارية على شكل قوة حليفة لها ومعادية لشعب فلسطين وشعوب أمتنا.
لذلك فإن المفاوضات على مدار اكثر من عشرون عاماً واتفاقيات التطبيع العلني، أثبتت بعد ماراثونية فشلها، بل سقوطها سقوطاً مدوياً، وعلى الرغم من ذلك، ما زال هناك من يأمل بما يسمى "حل الدولتين"، أما بعض الذين رفضوا ويرفضون حالياً المشروع الساقط، ليس بدافع وطني نزيه وشريف، بل بعضهم من غلاة تغليب الهم القطري على الهم العام العربي، من منطلق الحفاظ على مصلحة (بلدي أولاً)، وليكن هذا الشعار غايتهم، أهم من تحرير كل فلسطين والأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن أن يدفعوا بأي حل تسووي أكثر خطورة وسوءً من الأول، بتقديم مشروع التعايش السلمي مع المحتل، والأهم من ذلك كله، تجاهل مرامي المشروع الصهيوني الاستعماري العالمي، والتغاضي عن ماهية إستراتيجية هذا النوع من الاحتلال الإلغائي، ليس لشعب وأرض فلسطين فحسب، بل لكل ما يمت لهوية وتاريخ وجغرافية العرب بصلة من المحيط للخليج العربي.
ان التآمر على الشعب الفلسطيني، وتوسّع "إسرائيل" لرقعة نفوذها دون تحمّل كلفة الاحتلال أو مسؤولياته القانونية، فهل يمكن تقبّل الهروب من تحميل الكيان المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية، إلى قبول محتلين مستعمرين، رغم كل ما اقترفوه، وإذا كان المفهوم الصحيح لطرد المحتل، هو في التحرير، إذن لماذا هذا الخلط العجيب، وان من يريد الاستمرار في الضغط على الشعب الفلسطيني من خلال حصاره عليه إن ينهي الصراع من خلال الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وعودة اللاجئين من ابناء هذا الشعب المناضل الى ديارهم وممتلكاتهم، لا أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع من فتكوا بالحجر والبشر، وعاثوا بالأرض فساداً وتخريباً.
ان حملات المقاطعة العربية والدولية تحوّل مواجهة "إسرائيل" إلى مسؤولية جماعية من جهة، وعالمية من جهة أخرى، وهذا أمر هام جداً، لكن إشكاليتها الكبيرة هي انحصارها في العمل على الأداة (المقاطعة) دون العمل على تبني استراتيجية جذرية واحدة، وهذه نقطة ضعفها. ولهذا فلا تعارض بين المقاطعة ومقاومة التطبيع إن تبنّت حملات المقاطعة مفاهيم واستراتيجيّات مقاومة التطبيع الموضّحة وهذا ما نشجّعه.
على الرغم مما يجري تبرز اهمية وجود روح المقاومة وثقافة الممانعة لدى الشارع العربي النابض بالحياة على الرغم مما يلقيه هذا الشارع من تبعات على كاهل المواطن العربي والأمثلة أكثر من أن تحصى بالرغم من غياب استراتيجية عربية موحدة للدفاع عن الحقوق العربية. الا ان مواجهة مشروعات الهيمنة الأمريكيةـ الصهيونية والتصدي لها وعرض الحقائق واستنهاض ثقافة المقاومة وتجسيدها وتمثل قيمها والعمل في مختلف الميادين وبما يليق بتضحيات الشعب الفلسطيني وإنجازاته، وألا يقتصر ذلك على مواجهة اتفاقية الغاز بل يتطلب خطط واستراتيجيات لمواجهة كافة اشكال التطبيع وحشد الشارع الفلسطيني والعربي واستنهاض ثقافة مواجهة التطبيع والتمسك بخيار المقاومة، وخلق حالة وحدوية شعبية تؤكد بأن شعبنا وأمتنا حية وقادرة على النهوض والتصدي للمخاطر بالموقف الموحد وبالكلمة الصادقة في وجه أعداء الشعوب وأعداء الحقيقة.
ختاماً: لا بد من القول، ان ثقافتنا المقاومة هي التي ستفشل التطبيع، بحكم تلك الثقافة التي تأسسنا عليها بمقاومة التطبيع، وتعزيز الأدوات في هذا الصدد لإفشال كل محاولات التسلل بالرشاوى الاقتصادية ممثلة ببضائع رخيصة، مع الكيان الصهيوني، لأن فلسطين وكل قطر عربي محتل، لن تحرره نفوس مستعبدة، منافقة أو متلونة حسب المناسبات، والمأجورة، المأفونة العاشقة للمال والسلطة بهدف السلطة وليس من أجل الحرية والاستقلال والتحرير، أو تلك التي تقدم بسخاء تنازلات موجعة ومؤلمة، ظنا منها أنها تحمي باقي البلاد العربية، ولا أحد محصّن من المشروع الاستعماري الشامل، فكما قال زعيم الأمة العربية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إن الخائفين لا يصنعون الحرية، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء واستعادة الحقوق المشروعه للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.