على حاجز "جبارة" العسكري في طولكرم رأيتها تنزل من سيارة عسكرية إسرائيلية، تحمل حقيبة صغيرة، وتمشي بثقة وعلى مهل، تقطع الحاجز، تتجاوز الجنود، مبتسمة، رافعة الرأس، تنظر إلى الأمام، تتهادى كفراشة تطير فوق سماء منخفضة، تعانق والديها والناس المنتظرين المبلولين بزفة المطر في تلك الظهيرة.. هي الأسيرة المحررة الطفلة ملاك الخطيب، والتي أفرج عنها بعد شهرين من اعتقالها، عادت في نهار شتوي حميم، السماء تصب ماءها دافقاً وغزيراً وشديداً، المطر يغسل الارض ويدق التراب والحجارة، يحتفل المطر معنا باستقبال ملاك الصغيرة،
هناك نكهة أخرى للهواء البارد، هناك غيوم تنام على وسادة الحب، تهز النجمة وترقص في الأفق.
رايتها تقلب كلماتها الساخنة، تقلد خطواتها وإشاراتها الأحصنة، تعلم الطقس تواضع الغبار، تزفر أحلاماً وتنعف كواكباً بين الناس، كأنها رسالة طويلة كتب فيها أسماء أكثر من 300 طفل وطفلة لا زالو في السجون، وملاك تقلب الصفحات وتشير اليهم، أعمارهم، وجوههم البرئية، جراحهم الدفينة، خرابيشهم الحبيسة، صراخهم في الليل دون ملجأ.
ملاك تحت المطر، تقطع الحاجز، تمزق المشهد بين السجن وبين الحرية، عيناها تحملقان في أمها وهي ترفع منديلاً، وتجري في لهفة تتموج عن شهوة الأمهات، عندما يرفعن عكازة الأمل، وقلباً لا تتسع حدوده لكل المعذبين الساكنين في السجون وفي الأوردة.
أهي الطفلة العائدة من المدرسة أم من السجن؟ يتساءل الجنود المذهولين وهم يشاهدون طفلة في ثوب امراة، وامراة في ثوب من برق ورعد وضوء ومطر...
أهي الطفلة العائدة من سجن الشارون؟ تحمل في حقيبتها وصايا واحد وعشرين أسيرة؟ أم هي لؤلؤة النهار تختبئ في صدفة الوقت كأنها النار والماء والصرخة في آن معاً؟ وقد رأيت أمامي البراءة في سرير يمشي على الأرض، مكبلاً سوى من يدٍ تحرك ذلك الموج...
ملاك تحت المطر...، اليوم كان الجمعة، سمعنا الآذان ورأينا هلالاً يتلو على السماء ما سيكون بعد قليل، يطمئن البشر القاطنين بين بحرين وجبلين ومسجدين وكنيستين أن أصابع الشمس قد ظهرت أخيراً في كف ملاك، وأن الزرع بدأ ينبت في أجساد الشهداء عالياً، وأن الأرض كلها ماء، هناك رعد في الصدر، وهواء في الرئتين ونوافذ مفتوحة في سجن عسقلان...
ملاك تحت المطر، روت للصحفيين قصتها القصيرة الطويلة، طفلة مكبلة، معصوبة العينين، محشورة في غرفة التحقيق، جدران مدببة، ضوء باهت، سجان متطرف لا يتقن أي لغة، ليل له رائحة أنفاس متعفنة، صراخ خلف الأبواب، تهديد ووعيد ودماء جافة على بطاطين عتيقة.
وتروي ملاك أنها قابلت في رحلتها دولة نووية، تملك جيشاً قوياً وطائرات ودبابات وصواريخ وقنابل ذكية، متضخمة عسكرياً وعنصرياً، تخشى أطفال فلسطين لأن الأسطورة قالت أنهم الذين يحرسون أبواب الجنة والنصر والبسمة عندما تسقط الأقنعة...
وتروي ملاك، أنهم عكفوا على وضع لائحة اتهام طويلة منذ كانت نطفة فعلقة، وأنها خطيرة على أمن "دولتهم"، ما دامت تجيد الغناء وضرب الحجارة وحفظ درس التاريخ منذ النكبة حتى آخر جثة في رمال غزة..
ملاك تحت المطر، سفيرة العواصف العاتيات والبروق الآتيات، ابنة الضمير الذي لا زال ساكناً وبارداً هنا وهناك، الغائبة في السجن عن ساعة الفطور وطائرات الورق، العائدة من الظلم الاحتلالي إلى اقفاص تمتد من ثدي السماء إلى تابوت الجسد..
ملاك تحت المطر
أهلاً بعودتك يا ابنتي
البسي مريول المدرسة
وانطلقي..
أنت قطر الندى باقية
عدل الحياة..
تسكنها الريح والماء والعافية
* وزير شؤون الأسرى والمحررين- رام الله.