Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

في غزة.. سن البطولة والحلم في خطر: عين على الإنسان.. حسين حجازي

في غزة.. سن البطولة والحلم في خطر: عين على الإنسان.. حسين حجازي

  لا نملك ثروات قومية يُعتد بها ولا نسيطر بعد على مائنا ولا سمائنا أو أرضنا، وما زلنا في واقع الحال نعتاش على ما يقدمه لنا المجتمع الدولي من فتات المساعدات، وبضع عائدات ضريبية يقوم الاحتلال الذي يقتطعها بقطعها بين الحين والآخر، كنوع من العقاب الجماعي،

وهي بحسب وزير ماليتنا شكري بشارة تشكل 70% من مصادر ميزانيتنا. لا نملك شيئاً هكذا، ولكن ما الذي يبقينا على قيد الحياة حتى الآن إذن؟ ربما أنها قوة التوكل على الله أو البركة أو بساط الريح الخرافي الذي نطفو عليه كما قال ياسر عرفات ذات مرة، أو هي المعجزة الفلسطينية. وكل ذلك صحيح في الحرب التي ما زلنا نخوضها على محور الجبهة المعنوية وإرادة البقاء والتصميم على البقاء، وحيث افرح أو صلّ وأحب من حولك واسق العطشان وأطعم الجائع، إذن أنت تقاوم وكل عام وأنتم صاعدون إلى التحرير، تحرير أرضكم وإنسانكم كما يردد الأب مسلم.

كل هذا صحيح، ولكن في القلب منه ثروتنا الحقيقية.. ذهبُنا الصافي الذي لا يعادله ذهب الأرض جميعاً إنما هو الإنسان الفلسطيني، الذي هو أثمن رأس مال. وربما أستعير هنا توصيفاً قاله هوشي منه حين كان الفيتناميون يواجهون أعتى قوة في العالم والتاريخ: «الإنسان هو اثمن رأس مال»، وانتصر الفيتناميون وعلموا العالم كيف يمكن لهذا الإنسان الفقير المعدم ان يتفوق على الطائرة بي 52، وأُخرجت أميركا من سايغون مدحورة مهزومة. ولكن نسأل أنفسنا اليوم السؤال نفسه: بأي راية انتصر الفلسطينيون الغزيون على "إسرائيل" في الحرب الأخيرة؟ أوليس بالإنسان الغزي المقاوم الذي حطم أساساً لا القوة المادية العسكرية المهولة التي لا تقارن بقوة حماس وأخواتها من الفصائل، وإنما بتحطيم الهالة الأسطورية للجندي "الإسرائيلي"، وهكذا بالضبط تحقق النصر. كما تحققنا وتعلمنا أن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان حين ارتقى وعي شعب بأكمله في لحظة واحدة ومصيرية في ذروة من التلاحم السيكولوجي في تجسيد نادر لقوة الروح الجماعية، عند الاستعداد لدفع ثمن القتال كما القرار بالقتال على حد سواء. هنا تجلت الجرأة على النصر، وهنا عند هذا الموقف هُزم العدو.

تناظر سيدة غزية مثقفة هنا في غزة منذ سنوات أشبه ما يكون بعمل المبشرين المسيحيين أو الدعاة المسلمين، بشرح علم كما لو أنه دين جديد يغزو العالم، يسمى «تنمية الموارد البشرية». هذه السيدة التي تستحق أن أحييها هنا على جهدها ومثابرتها هي الصديقة والدكتورة مي نايف. ويقوم هذا العلم باختصار على فرضية أو حقيقة مفادها أن الإنسان بطبعه مزوّد بطاقة إيجابية لا حدود لها، وأن كل القصة تتلخص بكيفية توجيه هذه الطاقة التي تصنع المستحيل أو المعجزات، وهذا يشبه قول تولستوي في روايته الشهيرة «الحرب والسلام» على لسان أفلاطون من أنه لا يوجد وضع مهما كان صعباً وقاسياً لا يستطيع الإنسان العيش معه والتغلب عليه. أو قول السيد المسيح «بإيمانكم تستطيعون نقل الجبل من مكانه»، أي قوة اللاوعي الباطنية التي تحدث عنها بإسهاب زميل فرويد عالم التحليل النفسي يونغ، واعتبرها هي المحرك الأكبر للتقدم والتاريخ.

وهو علم لا يختلف في نظريته عن الطب الصيني، الذي يقوم أساساً على أن الاختلال في التوازن، بين الذكورة والأنوثة أو التوافق الطبيعي هو سبب المرض، وأن الاستشفاء من المرض إنما يقوم على فهم هذه الاختلالات بإحلال الطاقة الإيجابية مكان الطاقة السلبية، بعد التخلص منها عبر نظام غذائي متوازن، يترافق مع نمط حياة أكثر توافقاً مع الفطرة الإنسانية وتدليك النقاط الانعكاسية، لمراكز هذه الطاقة في جسم الإنسان.

وقد يبدو من المناسب هنا الدعوة إلى مواءمة مناهج التعليم المدرسي وهذه المقاربات، ومن الواضح أن المنهاج المدرسي المعمول به اليوم ينطوي على اتجاه أحادي، يتجاهل مفهوم وقضية التآلف مع الحياة نفسها ويقتصر على تعلم الأشياء التي مضت أكثر من أعداد الأطفال والشباب للتصدي لما ينتظرهم من التحديات في المستقبل. وهو نظام في الأصل تقوم فلسفته على إعداد الكادرات المهنية مع نشأة بيروقراطية الدولة البرجوازية الحديثة، أو كما كان يسميها نابليون «حكومة المدراء» وهي نظرية لم تعد صالحة اليوم مع تغير فلسفة النظام نفسه ووظيفته، وتراجع دور الجهاز البيروقراطي القديم مع تطور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة وتحول المعرفة والإبداع كمصدر رئيسي للثروة والنجاح.

ولكن هذا بالضبط ما يجعل هذه النظرية وتوظيفها الراهن قابلاً للنقض من المقلب الآخر في التحليل، وأنه لا يمكن غض النظر عن الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه المقاربة أو العلم، إذا كان يتوجه بالأساس لمخاطبة الأشخاص بوصفهم أفراداً، بما يساعدهم على تنمية قدراتهم ومواهبهم الفردية، لتحقيق خلاصهم الفردي أي النجاح والفوز والحصول على الثروة في إطار النظام نفسه، وليس بالتغيير الجماعي للنظام الفاسد في أساسه والانقلاب عليه. وعليه وفق هذا التحليل فإن هذا العلم لا يصبح عندئذ سوى واحدة من تقليعات والموضات المزدهرة لفكر النظام البرجوازي نفسه، للحفاظ على سيطرته الصامتة والمتواصلة منذ ثلاثة قرون. ولكن المفعمة هذه المرة بمسحة كهنوتية من روحانيات الشرق. كما كانت الكالفينية البروتستانية، الكهنوت الذي رافق صعود البرجوازية في مهاد ثورتها على الإقطاعية. بينما المطلوب هو التفكير بالخلاص الجماعي الذي يتأتى عبر إحداث الإصلاحات الجذرية في بيئة النظام القائم.

لقد كان الخلاف في الأصل بين قيصر والمسيح أن الأول رأى وجوب العمل لتغيير الظروف الحياتية التي يعيش عليها الناس أي تغيير طبيعة النظام، بينما رأى الثاني أولوية العمل على تغيير طبائع الناس أنفسهم، تهذيب طبيعة الجنس البشري من الداخل. وبهذا المعنى لعل ماركس كان أقرب إلى يوليوس قيصر منه إلى المسيح، حينما رأى وجوب العمل أولاً على جعل الظروف الحياتية والمادية أكثر إنسانية، وهو بهذا ربما كان يتفق مع فرويد الذي أحال إلى الكبت الجنسي كل المشكلات والتعقيدات النفسية الناشئة عن حضارة المجتمع البرجوازي، التي هي نتاج الفقر واختلال التوازن الاجتماعي الذي ترافق مع التحولات القاسية واللاإنسانية لصعود البرجوازية، والتي وصفها كأفضل وصف الروائي الإنجليزي شارلز ديكينز في روايته «الأوقات العصيبة».

إن مناسبة هذا الحديث هو محاولة الإضاءة اليوم على واحدة من المشكلات الإنسانية والاجتماعية، التي لا يجري الحديث عنها، وسط ركام المشكلات التي خلفتها الحرب الأخيرة على غزة، حين يبدو للوهلة الأولى وكأن الشباب الغزيين قد انتقلت إليهم عدوى العزوف عن الزواج، من الغرب الأوروبي الذي يعيش تحلل الأسرة القديمة، والمنفتح على علاقات جنسية أكثر تحرراً من دون دفع ثمن المشاحنات الزوجية التي ما برحت تلاحق الأزواج منذ العصور القديمة وحتى الآن. وهو ما تكشف عنه إحصائية أخيرة عن انخفاض حاد في الإقبال على الزواج في المجتمع الغزي، يقابله أعلى نسبة طلاق سجلت العام الماضي بين الأزواج الشابة وبلغت 16% وسط توقعات أن تصل هذه النسبة خلال العام الحالي إلى 25% ما يطرح سؤالاً كبيراً على الحائط، عن حقيقة أن سنّ البطولة والحلم والعنفوان الشبابي الغزي في خطر. وعن الاستراتيجية الفعلية التي نتبناها اليوم في استثمارنا لهذه الثروة الوحيدة التي نملكها؟ والذي يحدث أن هناك اختلالاً عاماً وفساداً في بنية تفكيرنا والنظام على حد سواء هو الذي يجعل من هذه المفارقة حقيقة، إننا استطعنا التفوق والتغلب على الحرب لكننا نقف عاجزين أمام حدة المضاعفات التي نصنعها بأنفسنا فوق حصارنا، حين يبدو هنا حتى رجال الدين وخطباء المساجد، والإعلام، وجهاز التعليم، عاجزين عن تفكيك هذه الدائرة المهلكة التي تحيط بالشباب، وتجعل من يريد الباءة منهم يفضل الصيام، لعجزه عن دفع هذه التكاليف من غلاء المهور والمضاف إليها هذه السلسلة المعقدة من إجراءات الزواج، وكل ذلك نظير الحصول على الحق الأساسي بالزواج، في بلد محتل لا يعيش ظروفاً طبيعية.

لقد تفوقوا في الحرب وفي مواجهة المنخفضات، وفي الصبر على الحصار، لكنهم فشلوا في الزواج، ويذهبون سريعاً إلى الطلاق، ولم يستطيعوا الباءة ففضلوا الصيام وحرموا من أن يسكنوا إليها، المرأة التي هي الوطن.