يعلم الجميع أن إنشاء إسرائيل والاعتراف الدولي بها في العام 1948 ثم تمددها على كامل مساحة فلسطين، عدا احتلال الجولان السوري وسيناء المصرية، في العام 1967،
لم يكن ليكون لولا ما حظي به المشروع الصهيوني من رعاية ودعم وتأييد قدمتها - تلبية لمصالحها - دول الاستعمار الغربي التي ورثت الولايات المتحدة قيادتها عن "بريطانيا العظمى" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويعلم الجميع أيضاً أن "وعد بلفور"، 1917، الذي أسس لقيام إسرائيل كان جزءاً من مخطط تقسيم الوطن العربي باتفاقية سايكس بيكو، 1916.
ويعلم من شاء ومن أبى من العرب أن قضية فلسطين قضية عربية في عمقها وأنها - لا تداعياتها - جوهر الصراع العربي الصهيونى.
ونعلم - شئنا أم أبينا - أن تسوية الصراع لا تعادل إنهاءه ووضع حد للمطالب المترتبة عليه، بل تغيير أشكاله وحدته بصورة جوهرية وإلى أجل مفتوح المدى يصعب التنبؤ به بدقة.
وليس اكتشافاً للنار القول إن فكرة تسوية الصراع بالمعنى المشار إليه أعلاه لن تتحول إلى واقع طالما ظلت أسلحة جنود إسرائيل وأنياب جرافاتها وأعمدة فكرها الصهيوني الخرافي هي ما يحدد حدودها.
وبالمثل ليس اختراعا للبارود الجزم بأن فكرة "السلام العادل الدائم والشامل" لن تتحول إلى واقع طالما ظلت المنظومة الأيديولوجية الصهيونية العدوانية التوسعية هي ما يحكم إسرائيل ويتحكم بها سياسياً ومجتمعياً وعسكرياً وأمنياً وأخلاقياً.
وفي ظني أن بوسع سالف القول - الحقائق - الإجابة عن الأسئلة المحورية لراهن الصراع من حيث:
*أولاً: لماذا لم يفض تراجع الأنظمة الرسمية العربية عن أداء واجبها القومي تجاه القضية الفلسطينية - على الأقل منذ "مؤتمر مدريد للسلام" - 1991، إلى نجاة الحالة العربية من تداعيات استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل إلى ما تغرق فيه اليوم من أذنيها حتى أخمص قدميها في صراع داخلي دموي متعدد الأوجه والأبعاد ينذر بلا تطير بتفكيك الدولة القُطرية العربية لا لمصلحة بناء وحدة قومية بل لمصلحة التمزيق بأشكاله سواء بصورة رسمية كما وقع في السودان أو بصورة واقعية كما هو حاصل في ليبيا والعراق أو بصورة الدولة الفيدرالية بين أقاليم كما تقرر في اليمن ويُراد لسوريا وفشل في مصر، فيما بالتحليل المنطقي وحده يمكن الجزم بأن الدائر في مراكز القوة العربية من تقتيل وتذبيح وتخريب وفوضى تنفذه جماعات التكفير والتمزيق الديني والطائفي والمذهبي هو ليس أكثر من مظهر لجوهر مخطط ترعاه وتموله وتسلحه دول عظمى بقيادة الولايات المتحدة ووكلائها في المنطقة، ويقع في صلب أهدافه تعزيز مكانة إسرائيل وتفوقها وتسهيل طريق محاولات وخطط تصفية القضية الفلسطينية باسم تسويتها.
إذ كيف لعاقل أن يصدق أن بوسع هذه الجماعات الإرهابية التكفيرية أن تحوز بجهد ذاتي أموالاً طائلة وترسانة عسكرية هائلة وطاقة بشرية كبيرة وواسعة الانتشار من دون أن يكون هناك دول تمدها بالمال والسلاح والدعم السياسي والإعلامي.
*ثانياً: لماذا لم يلاقِ القبول الفلسطيني لمدة 20 عاماً بتقسيم المفاوضات إلى مراحل وفقط لتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية قبولاً من أيٍ من حكومات إسرائيل المتعاقبة بالتخلي عن أيٍ من المطالب الصهيونية المطلوب اليوم من الفلسطينيين والعرب عموماً التسليم بجوهرها وناظمها الأساس: الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي".
ما يفسر ما يعيشه العامل الوطني الفلسطيني من حالة تراجع شاملة عنوانها الأساس انقسام داخلي مدمر يبث كل أشكال الإحباط واليأس في أوساط الحالة الشعبية المثقلة بجرائم الاحتلال واستباحاته بينما لا تتوافر في المدى القريب على الأقل إرادة سياسية جادة لطي صفحته السوداء التي دون طيها يغدو مجرد كلام بلا طائل وفارغ من كل مضمون الحديث عن توفير الحد الأدنى من القوة الوطنية القادرة على مواجهة التصعيد السياسي والميداني الإسرائيلي بدعم لا لبس فيه من الإدارة الأميركية.
*ثالثاً: لماذا كل هذا الإصرار الأميركي على استغلال راهن الحالتين القومية العربية والوطنية الفلسطينية لفرض حل لا يلبي أدنى الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
وهذا ظاهر للعيان فيما يتسرب من جوهر "خطة كيري" التي يقترب موعد طرحها في صيغة "اتفاق إطار" يحظى بصمت رسمي عربي وتأييد "اللجنة الرباعية" ومطلوب قبوله أساساً للتفاوض، وإن بحيلة: "وافق وتحفَّظ وفاوض" في ظل عنجهية حكومة "الاستيطان والمستوطنين" بقيادة نتنياهو - ليبرمان - بينت المتكئة على ضعف الحالتين العربية والفلسطينية وعلى يقين معرفتها أن الولايات المتحدة التي تملك منفردة أوراق الضغط عليها لن تمارس ضغطاً فعلياً عليها يجبرها على تقديم تنازلات سياسية ذات مغزى.
ذلك رغم ما أطلقه السيد كيري مؤخراً من تصريحات أثارت حفيظة أكثر قادة إسرائيل يمينية وتطرفاً وتشدداً فحواها: أن فشل المفاوضات يمكن أن يعرِّض إسرائيل لحملة مقاطعات دولية هي ليست بحاجة لها ملمحاً بذلك إلى ما تشنه ضدها جهات غير رسمية في دول الاتحاد الأوروبي من مقاطعة اقتصادية وأكاديمية بسبب غطرسة سياستها الاستيطانية. فتصريحات كيري هذه تبقى ذراً للرماد في العيون وشكلاً آخر لاستدراج الفلسطينيين إلى الموافقة على ما سيقدمه من "اتفاق إطار" طالما أنها، أي تصريحات كيري، جاءت مقرونة بالضغوط السياسية الفعلية التي تمارسها الإدارة الأميركية على السلطة الفلسطينية، وبالتهديدات المباشرة التي يطلقها الكونغرس الأميركي بقطع المساعدات عنها وفرض العقوبات عليها، وبالتبني الأميركي الرسمي العلني لمطلب الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي" بوصفه المطلب الصهيوني الأساس والناظم للمطالب الصهيونية كافة.
هذا ناهيك عن معرفة الجميع بأن الآمال المعقودة على تطوير المقاطعة الأوروبية لإسرائيل إلى مقاطعة تشبه مقاطعة نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا هي مجرد أوهام طالما ظلت في إطار تبعية الاتحاد الأوروبي لسياسة الولايات المتحدة الدولية عموماً والشرق أوسطية خصوصا، وفي إطار غياب استعداد عربي لاستخدام أدنى أوراق قوته لتطوير مقاطعة إسرائيل وتوسيعها، بل في ظل زيادة منسوب التطبيع العربي المجاني معها بأشكاله منها المعلن وما خفي أعظم.
على ما تقدم صار الشعب الفلسطيني وفصائل حركته الوطنية بعامة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بخاصة أمام مرحلة لم يعد بالمقدور مواجهة تحدياتها وتلبية استحقاقاتها وصد مخاطرها بتكتيكات تصلح لمعالجة لحظة. أما لماذا؟ لأن البحث عن تسوية - ولو متوازنة وتلبي أدنى الحقوق الفلسطينية - قد صار بالتجربة مساوياً للتفكير فيما إذا كان التوصل لمثل هذه التسوية في عداد الممكن الواقعي في ظل ميزان القوى القائم بالمعنى الشامل للكلمة، بل وفيما إذا كان في عداد الممكن أصلاً في ظل رعاية أميركية تدرج تبنيها لشروط حكومات إسرائيل المتعاقبة وصولاً إلى تبني المطالب الصهيونية وإلى مطالبة الفلسطينيين بالتفاوض على أساسها مقرونة بكل أشكال الضغط والابتزاز الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، بل والتلويح بإقدام حكومة الاستيطان والمستوطنين على تنفيذ خطط جاهزة سواء للانسحاب من طرف واحد من المناطق المأهولة في الضفة أو الإعلان عن ضم مناطق منها وفرض أمر واقع مع إشاعة أن إسرائيل لا تخشى رد الفلسطينيين بخيار حل السلطة الفلسطينية، وأنها جاهزة لمواجهة كل الاحتمالات والخيارات.
لذلك فإن ما تعرضه "خطة كيري" ينذر بخطر إستراتيجي يتهدد القضية الفلسطينية ويحتاج إلى رد سياسي فلسطيني وطني موحَّد وإستراتيجي يقوى على احباطه.
فالرد المطلوب، وللدقة المفروض، لم يعد رداً على نتائج أسئلة جولة مفاوضات يرعاها كيري، إنما على نتائج أسئلة مرحلة عمرها 20 عاماً أمضاها الفلسطينيون، بل ضيعوها، في محاولات البحث عن تسوية سياسية لاسترداد الحد الأدنى من حقوقهم، وثبت بالتجربة أنها غير ممكنة واقعياً في ظل ميزان القوى القائم، ما شجع قادة إسرائيل بألوانهم وبدعم أميركي على تصور أن ثمة إمكانية لفرض حل يعادل تسليم الفلسطينيين بالحد الأعلى من المطالب الصهيونية وأطماعها كما صاغها مؤسسوها الأوائل، ذلك رغم أن هذا التصور مجرد وهم كما أكدت تجربة نحو قرن من الصراع قدم الشعب الفلسطيني خلالها تضحيات جسيمة قل نظيرها.