في ما يسمى «شارع بن غوريون» في مدينة حيفا التي كادت إسرائيل تبتلعها أسرلةً، خرج الفلسطينيون الذين تصرّ وكالات الأنباء كوكالة الصحافة الفرنسية على تسميتهم «عرب إسرائيل»، خرجوا وعلم فلسطين يرفرف فوق رؤوسهم عالياً غير آبهين بآلاف الجنود الإسرائيليين والخيالة. مشهد لم تحتمله دولة الاحتلال: أن ترى مجدداً علم فلسطين يعتلي الهواء في سماء حيفا التي ظلت لوقت طويل حكراً على غالبية يهودية محتلة؟
صعب عليها..في حيفا، في الشارع الذي شهد التظاهرات الرئيسية والذي استولت عليه دولتهم لبناء نفسها على أنقاض قرانا، في هذا الشارع تحديداً يقع بيت الشاعر الفلسطيني أبو سلمى، وبالقرب منه مفترق طرق إذا سرت فيه تصل إلى قرية «بلد الشيخ» وهي قريتي في فلسطين..
شباب يبصقون بوجه جندي، وشاب فلسطيني ثان يشبع جندياً آخر سباباً، فالجندي فلسطيني وبدوي من الجنوب، أي من أهل القضية التي يتظاهر الفلسطينيون من أجلها. البصقة مستحقة عن جدارة، والسباب كذلك، فالشاب الآتي على الغالب من النقب نفسها، وبرغم أصله وهويته، هو ممن ارتضوا الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
«تفوووه.. على شواربك يا كلب الكلاب»، هتف أحدهم وهو ينظر إليه. «بقديش اشتروك يا رخيص»، هتف آخرون وهم ينظرون في عينيه.
هذا الجندي الفلسطيني الأصل كان واقفاً بين مئات الجند المدججين بالسلاح، أما الشاب، فقد كان واقفاً بين مئات الشباب الفلسطيني المتسلح بأحقيته بالأرض والهوية والراية..
مشاهد غيرت من يوميات مدينة حيفا في يوم الغضب هذا الذي خصص للإعلان عن رفض مخطط وزير التخطيط الصهيوني إيهودا برافر الاقتلاعي، للنقب في البداية.. حيث سيلحقه بعد فترة، مخطط آخر أعلنت عنه الصحافة العبرية، هدفه اقتلاع الفلسطينيين من الجليل.
لكنها، ومن حيث لا تدري، وحدت إسرائيل، بإقرارها الأولي للمخطط في الكنيست، الفلسطينيين حول قضية راهنة، بالرغم من كل الخلافات والانقسامات بين السلطة وغزة والفصائل والشتات وسيطرة الأقزام على ناصية قرار الفلسطينيين. هكذا عاشت حيفا والناصرة وعكا، ويافا، والنقب، والجليل، وكل المدن الفلسطينية المحتلة عام 48 انتفاضة أوصلت لقيادة الاحتلال وحكومته رسالة مفادها أن الفلسطينيين باقون في أرضهم ولن يرحلوا: لا بتهويد الدولة، ولا بإعلانها دولة لمواطنيها، ولا حل لدى هؤلاء سوى دحر كل إسرائيلي عن أرض فلسطين التاريخية..
إحدى الفتيات وتدعى رولا، تصرخ «برافر بمرش.. بدكم تمرروه؟ على دمنا بتمر جرفاتكم» ثم تبصق بوجه أحد الجنود الذي اعتدى عليها، وما أن فعلت، حتى هجمت عليه قوافل من الشباب العرب الذين أخذوا يدهسونه بأقدامهم، وأحدهم يصرخ «ولكو لندوس كبيركم وصغيركم يا كلاب»..
في هذا الشارع، بن غوريون، أعلن الاحتلال أمس فقط، أي في اليوم التالي ليوم الغضب عن اختفاء أحد جنوده ويدعى دانييل كدوش، الذي كان يمارس عمله في قمع الشبان الفلسطينيين، اختفى؟ ما معنى أنه اختفى؟ هل قتل؟ ربما اختطف؟ أحد الشباب خلال التغطيات التلفزيونية سمع أحدهم يقول له: «إمشي من هون أحسن ما أزحلقك وله» والجندي بالفعل اختفى! هل تكون كلمة الفلسطيني في فلسطين مباركة حتى استجيب لكلام الشاب و«تزحلق» الشاب من فوره وغاب؟ أحب أن أفكر بهذه الطريقة. تماماً كما في فيلم «يد إلهية» للفلسطيني إيليا سليمان حين طارت الممثلة الفلسطينية في الهواء لتواجه المحتلين كما لو كانت نينجا.
أكتب بحماسة العائد غداً، والشبان في الداخل، يهتفون ويواجهون نكبة جديدة، وينادون على اللاجئين للعودة، وعلى للمقاومة في كل مكان، فأصعب الأماكن اخترق ورفع فيه علم فلسطين، وكأنها دلال المغربي حين أعلنت الدولة الفلسطينية، على أرض فلسطين قبل ثلاثة عقود.
مشهد كمشهد يوم الغضب في حيفا والنقب والجليل، لن يعجب إسرائيل ولن يريحها، هو المشهد ذاته الذي شهدناه قبل عامين تقريباً عندما هبّ الشباب الفلسطيني والسوري واللبناني إلى الحدود مع فلسطين واخترقوا شريط الذل الحدودي في الجولان ودخلوا إلى مجدل شمس ووصل بعضهم إلى بعض مدن الداخل..
الغضب المستمر ضد الموت والنكبات هو الغضب الذي يعيد فلسطين ويوقف العبث السياسي بقضيتنا، صوت الشباب الفلسطيني في يوم الغضب قال على لسان أحد الفتيان «قايمين اليوم مش بس عشان النقب، قايمين عشان الجليل وحيفا ويافا والناصرة، والجليل، والضفة وغزة، وعشان اللاجئين، قايمين عشان فلسطين اللي لازم ترجع».