قبل تسعة أعوام، وفي مثل يوم أمس (الإثنين) ورغم أن الفلسطينيين في كل مكان كانوا على علم بالحالة الصحية الصعبة لزعيمهم التاريخي، ياسر عرفات، ورغم أنهم كانوا يتابعون أخباره لحظة بلحظة، إلا أن خبر وفاته وقع
عليهم كالصاعقة، لدرجة أن أهل غزة، حيث كنت أقيم، انزووا في بيتوهم وكأن على رؤوسهم الطير، كمن يتعرض لصدمة قاسية تفقده النطق والحركة، الحزن تام، والغضب يغلي في العروق، ثم كانت بعد ذلك الرايات السوداء تغطي سطوح المنازل والبيوت، إلى أن كان التشييع بعد ذلك.
يشبه اليوم البارحة تماماً، وكأن الرجل قد رحل لتوّه، وأشد ما يحزن شعبه أن حلمه برفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس ما زال بعيداً، فيما القلوب ترتجف خوفاً على وحدة كان طوال عقود صمام أمانها ومفتاحها، الذي سرعان ما ضاع في قاع البحر، بحر غزة، بعد أن رحل.
كان يمكن لقيادات الفلسطينيين أن تبقي على الحلم، بإحياء المناسبة، خاصة في غزة، لكن ولأكثر من سبب، لم يحدث هذا، فقد شهدت الأيام التي سبقت يوم الذكرى _ ورغم الإعلان الرسمي الصادر عن اللجنة الطبية التي بحثت في أسباب الوفاة، وأكدت أنها لم تكن طبيعية، بل بفعل قاتل _ عودة التوتر بين فتح وحماس، وقد يكون السبب هو ما أعلنه بعض غامض من خارج حدود فلسطين، وتحديداً من خارج حدود غزة، عن تمرد فلسطيني على طريقة تمرد المصريين، ما دفع حكم حماس في غزة، لمحاولة احتواء هذا الاحتمال، أي احتمال أن يجعل هؤلاء من الذكرى مناسبة للاحتجاج أو "الثورة" على حكم "حماس"، وذلك بشن حملة اعتقالات في صفوف كوادر فتح، في مشهد يعيد حالة التوتر بين الفصيلين إلى المربع الأول!
بيانات تمرد غزة، ما زالت تصدر تباعاً وبشكل افتراضي، وكأنها تروي فصولاً لمسرحية، تعرض على شبكات "الفيسبوك"، لتعلن عن برنامج خلال الأيام التالية، الأمر الذي لا يتوقع كثيرون حدوثه، ولكن يبقى فن الممكن في السياسة هو الممكن وما غيره مستحيلاً، والممكن كان يفترض أن تؤخذ الأمور بالعقل، أي أن تتم إعادة قيمة الوحدة لاسم الراحل الفلسطيني العظيم، كان يمكن، بل كان لا بد من أن يجتمع الفلسطينيون في كل مكان لإحياء الذكرى موحدين ومتراصين، ومطالبين بملاحقة القتلة الإسرائيليين في كل محاكم الدنيا.
في المناسبة لا بد من لحظ أن غياب عرفات عن قيادة الواقع والحالة السياسية الفلسطينية، ربما كان أحد الأسباب البعيدة للانقسام الواقع، وكل الخشية من أن يظن الإسرائيليون أن غيابه قد طوى ملف الكفاح الوطني تماماً، وأن تحقيق حلم الدولة والعودة وتحرير القدس قد بات درباً من دروب المستحيل.
وحيث أن الذكرى لا تزال طازجة وغالية، وأن استحضارها أمر مهم وضروري وأحياناً يكون حاسماً في صنع الحاضر والمستقبل، لكنه وحده لا يكفي، ولا بد لنا هنا من أن نستذكر أن كل الأحلام العربية والإسلامية في إعادة أمجاد مضت، والعيش على ذكرى الماضي، دون التفكير الجدي بواقعية وعقل وتعقل بمعالجة مشكلات الحاضر والتخطيط للمستقبل، لم تكن كافية لتغيير الواقع قيد أنملة.
من الواضح أن الفلسطينيين الحالمين بإنهاء الانقسام، خاصة من أهل وشباب غزة، فكروا في أن تكون ذكرى الراحل عرفات فرصة أو مناسبة لإزالة عبء الانقسام عن كاهلهم، وذلك لأنهم يظنون أن لاسم الراحل وقع سحري، لكن لا بد من القول بأن النوايا لا تكفي، كما أن الرغبات لا تكفي لتحقيق ما يريده المرء، كما أن الزج بأحد أهم الملفات الداخلية في أتون "صراعات أو حتى خلافات" إقليمية، لا يحقق المنشود، وأن الفلسطينيين، الذين عاشوا أتون المعارك والحروب الطويلة على مدار سنوات طويلة مضت، تعلموا درساً مريراً، وهو أنه لا يحك جلدك مثل ظفرك!
لقد انتظر الفلسطينيون عقدين من السنين بعد نكبة 48 الجيوش العربية أن تحرر لهم فلسطين، حتى أطلقوا ثورتهم العام 65، ثم انتظروا عقدين آخرين أن يجيء فارسهم الفلسطيني على الحصان الأبيض، من الخارج، ليحررهم من الاحتلال، قبل أن يطلقوا انتفاضتهم المجيدة العام 87، وهم ما زالوا يجوبون العواصم العربية، خاصة القاهرة، لتعيد لهم تصويب أوضاعهم، إن كانت تلك على الصعيد الداخلي أو على الصعيد التفاوضي، وما من دخان أبيض في الأفق، لذا لا بد من القول بأن "حراكاً" غير مرئي، وغلياناً يمور تحت سطح مياه السياسة الراكدة، سيعلن في لحظة ما عن وجوده وعن قلب الطاولة على الجميع، دون إعلان مسبق ودون صخب أو ضجيج، تماماً، كما حدث في عامي 65، 87، هذا ما على الجميع أن يدركه، حيث يمكن لأي أحد أن يتصدى لأي مشاكس أو مناكف أو حتى عدو في الخارج، لكن لا أحد يمكنه أن يقهر إرادة الشعب في الداخل، والثورات لا تتم لا بريموت كنترول ولا بتخطيط مسبق ولا حتى بإرادة ذاتية لفرد أو جماعة، العقلاء فقط هم من يعالجون أسباب الثورات، قبل أن تحدث، بالرضوخ لإرادة الناس، ولما يرغب به الشعب، وإن كان ما زال هناك من عاقل في "صفي القيادة الفلسطينية" فعليه أن يشرع فوراً في إنهاء الانقسام قبل أن يعلن شبل فلسطيني أو زهرة فلسطينية، رفع راية الوحدة والثورة ليس ضد الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل ضد الجميع!