هم الأسرى البواسل لكل منهم حكاية تروى فصولها في مجلدات الفخر، وعدالة قضيتهم الوطنية جعلتهم مقاومين من طراز فريد يكتب على لوحات الشرف، يمتاز بصلابة وإرادة قوية، فالحق الذي حملوه ودافعوا عنه يمدهم بعزيمة راسخة رسوخ الجبال، هي قضية وطنهم فلسطين المحتلة.
يخوض الأسرى في سجون الاحتلال اليوم إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، هو الأبرز من بين صور النضال المشروعة التي تلجأ إليها الحركة الأسيرة خلف القضبان لانتزاع الحقوق الأساسية الخاصة بالفرد أو الجماعة، لكنه الصورة الأكثر قسوة وصعوبة، ولم يلجأ إليه الأسرى ترفًا، بل رغمًا عنهم، بعد فشل الخطوات النضالية الأخرى الأقل ألمًا؛ فالحركة الأسيرة استطاعت بالإضرابات عن الطعام انتزاع جزء من حقوقها المسلوبة، وفرض وجودها، ما ساعدها على تنظيم صفوفها وترتيب أوضاعها الداخلية وتطوير ذاتها جماعة وأفرادًا، والارتقاء بدورها وفعلها النضالي، وتحسين أوضاعها المعيشية والحياتية، واليوم قرر ما يقارب 70 أسيرًا من عدة سجون الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام، بعد فشل المفاوضات بين الأسرى وإدارة سجون الاحتلال في تلبية مطالب الأسير نهار السعدي المضرب عن الطعام منذ 20 نوفمبر الماضي؛ احتجاجًا على استمرار عزله، وعدم السماح لعائلته بزيارته، إضافة إلى إنهاء عزل مجموعة من الأسرى.
فالأسرى ماضون في ثباتهم ماضون في إضرابهم عن الطعام حتى إحقاق الحق وانتزاعه ونيل الحرية، ومن واجب كلٍّ مساندة كفاحهم ومؤازرتهم في محنتهم؛ فقد أُفرج عن بعضهم في صفقة "وفاء الأحرار" وعاود الاحتلال أسرهم من جديد، وهذا مدعاة لراعي الاتفاق أن يتابع ملفهم ونصرتهم.
فسلطات الاحتلال هي المسئول الأول عن أي مكروه ينالهم (لا سمح الله) بتماطلها وتعسفها، والاستنكار والشجب لم يعودا يجديان نفعًا؛ فيجب تعدي ذلك ببذل كل الجهود والضغط على المحتل، والعمل على أكثر من صعيد، بالاعتصامات والمسيرات الجماهيرية، واستنهاض كل ضمير حي، وحث وسائل الإعلام بشتى أنواعها على نشر مأساتهم، واللجوء إلى المؤسسات الدولية والحقوقية؛ حتى ننقذهم؛ فالموت أضحى يهدد حياتهم ونال منهم الإضراب، ولا ننسى أن الأسر كما يؤثر في الأسير يؤثر في أهله ومحبيه؛ فيضاعف من آلامهم ويؤرق حالهم، ويزيد من معاناتهم ألم البعد والفراق والحرمان من الزيارة، عدا المعاناة النفسية للأسير وأهله.
الأسير طرق كل الأبواب، وجعل معركة الأمعاء الخاوية سبيلًا لنيل الحرية حين أُوصدت أمامه كل الطرق والأبواب، وكان من المفترض أن يغلق ملف الأسرى منذ توقيع اتفاق (أوسلو)، وعدم إطلاق سراحهم جميعًا إحدى نقاط الضعف في اتفاق (أوسلو)، خصوصًا أن في سجون الاحتلال حاليًّا عشرات أسروا قبل ذلك الاتفاق، وهم ممن يطلق عليهم وصف "عمداء الأسرى"، أو الذين أمضوا من مدة محكومياتهم ما يقرب من عشرين عامًا ولا يزالون في الأسر. وغني عن الإعادة هنا أن سلطات الاحتلال خلال مسيرة تعاملها مع ملف الأسرى لم تكن تلتزم بالتفاهمات المتعلقة بإطلاق سراحهم، وكانت تتراجع في أحيان كثيرة عن الإفراج عنهم في اللحظات الأخيرة، هذا كله يظهر الطابع الاستغلالي المراوغ الذي تتعامل به سلطات الاحتلال مع هذا الملف الإنساني البالغ الحساسية عند الفلسطينيين جميعًا.
هذا لا يبرئنا جميعًا من المسؤولية، وعلينا مناشدة كل المؤسسات التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وكل الضمائر الحية أن تبذل قصاراها؛ لإنقاذهم من شبح الموت الذي أصبح يهدد حياتهم في أية لحظة.
الأسرى أبطال الحرية يضربون وهم يعلمون أن الاحتلال لا يتوانى عن النيل من عزائمهم بأية وسيلة؛ حتى يثنيهم عن مواصلة الإضراب باستعماله شتى الطرق الإنسانية؛ لأنه يعرف تمامًا أنهم أصحاب حق وقضية عادلة، لذا يصبرون على الجوع حتى الموت؛ فقد سبق أن حرمت مصلحة السجون الأسرى المضربين عن الطعام العلاج، ونكلت بهم عقابًا لهم على الإضراب، وحرمتهم الزيارة، والفسحة التي تعرف بـ"الفورة" عقابًا نفسيًّا، وهذا قطعًا منافٍ لكل المواثيق الدولية التي تعنى بحق الأسير في الاحتجاج بشتى الوسائل المتاحة.
فمع ظلمة السجن وظُلم السجان، والبطش والتنكيل والحرمان من الحقوق والبعد عن الأهل، سيظل الأمل يحدو الأسرى إلى غد مشرق، يضيئون ظلمة السجن بشمعة أمل الحرية وانتصار قضيتهم وقضية شعبهم، مهما طال الليل وقسا السجان.