لى شواطئ مالطا وإيطاليا تتجسد مأساة اللاجئين الفلسطينيين، الذين هاجروا من مخيماتهم في سوريا؛ هربًاً من رائحة الموت وأزيز الرصاص وحطام البيوت إلى تجار الموت، السماسرة الذين يعملون على استغلال حاجات الناس الضعفاء، ورغبتهم في الخلاص من الموت
الذي يهددهم للذهاب إلى حياة جديدة أكثر أمنًا واستقرارًا، فأسلموا أنفسهم لهؤلاء التجار المرتزقة لنجدتهم، وقد أخذت أرواحهم تعانق أمواج البحر المتلاطمة على متن مراكب غير صالحة للنقل، وعيون الغدر تترقبهم في كل مكان، وحيتان البحر تنتظرهم بشوق
لقد اندفعوا في تيار الهجرة الجديدة، ولو كلفتهم أعمارهم وما تبقى لهم من كرامة، يتسابقون في الهروب والجري، مغامرين بكل ما يملكون من مال، آملين اجتياز الحدود والبحار ليصلوا إلى أوروبا، وليلامسوا غيومهما التي ستغتال ليلهم ونهارهم، وهم على علم بأنهم يفرون من موت متوقع إلى موت مؤكد.
إنها مأساة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معاني، بدأت يوم هجرت العصابات الصهيونية المجرمة اللاجئين الفلسطينيين قسرًا من بيوتهم وبلدهم كي تستولي على ممتلكاتهم، ولم يسلموا من الملاحقة، ففي كل حرب في الدول العربية المجاورة يزج اللاجئون الفلسطينيون فيها، ونسمع عن قتل ومذابح وهجرة جماعية جديدة لمن ينجو منها، وكانت آخرها هجرة اللاجئين الفلسطينيين من مخيمات سوريا إلى الغرب، دون معرفة إلى أين تمضي بهم قوارب الفرار من القدر إلى المجهول، ولماذا الهروب من الذات ومن وطن ضاق بساكنيه بعد أن عاشوا فيه عقودًا طويلة وتربت فيه أجيال كثيرة، ولاشك أن للحرب قسوتها وأهوالها، ولاشك أن سبل العيش صعبة جدًّا، في ظل الظروف الصعبة التي تعصف بمنطقتنا، إضافة إلى امتهان كرامة الإنسان، كل هذه العوامل تسببت في مأساة هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين؛ فما هو ذنبهم؟!، وما هي الجريمة التي اقترفوها؟!، وعلى من تقع مسؤولية أرواحهم؟!
فمن لجوء إلى لجوء جديد، ومن موت إلى موت آخر، وهذه المرة على مرأى ومسمع دعاة حقوق الإنسان، الذين يتعاملون مع قضية اللاجئين الفلسطينيين بازدواجية، فلا يعقل أن تكون سفن الأسطول الأمريكي أو سفن الأسطول الإيطالي والبحرية المالطية، أو القوات البحرية في مختلف العواصم الأخرى الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، لا يعقل أن تكون هذه القوات بما لديها من أجهزة وتقنية وتكنولوجيا حديثة عاجزة عن رصد هؤلاء القراصنة، ومطاردتهم والقضاء على أساليبهم التي تقوم على مقايضة أرواح الناس بعملات قليلة، ثم تأخذهم إلى قوارب أو سفن غير مؤهلة وغير صالحة لنقل الركاب ومحكوم عليها بالغرق والدمار، وليس من المعقول أن يترك هؤلاء القراصنة دون عقاب من حكوماتهم.
هكذا قدر للبحر الأبيض المتوسط أن يكون شاهدًا على مأساة شعبنا الفلسطيني على ضفتيه، فمثلما بكينا على وطننا الذي فقدناه في عكا على الجانب الشرقي، ها هم أبناء شعبنا من اللاجئين يفقدون حياتهم وأسرهم وهم يبحثون لهم عن ملجأ ووطن في الجانب الغربي، فأي عدالة دولية هذه التي تدعي حقوق الإنسان؟!، وأي أمم تدعي الأمن والسلام؟!، في حين أن اللاجئين الفلسطينيين لا يزالون ينتظرون العودة إلى بلادهم، لكننا اليوم ونحن نشعر بذنبهم ونتضامن من قلوبنا مع مأساتهم لابد أن نلوم أنفسنا قبل أن نلوم الآخرين؛ لماذا لا نعترف بالحقيقة بأننا مقصرون بحقهم؟!، ولماذا نحن مصرون على الخطأ؟!
لقد قفزنا قفزة ظالمة بحق لاجئينا حين همشناهم كل مهمش، ولم نهتم بمشاكلهم ولم نقدم لهم إلا القليل القليل من حقوقهم، وتركناهم في مخيمات الأردن ولبنان وليبيا وسوريا ليكونوا تحت رحمة الظلمة والسماسرة والقراصنة وتجار الموت، كيف لا وقد أهملت قضية اللاجئين الفلسطينيين في اتفاقية (أوسلو) بين منظمة التحرير والاحتلال، واستبدلت بها قضايا تافهة؟!، هذا يوضح حجم المؤامرة ويكشف قباحة لاعبيها بالتخلص من قضية اللاجئين الفلسطينيين بطرق عديدة: فتارة بالمجازر وتارة بتوطينهم وتعويضهم ومنحهم جوازات سفر، والآن يكرر (سيناريو) القتل بطرق عديدة للتخلص منهم، أليس تنازل محمود عباس شخصيًّا عن موطنه مسقط رأسه صفد معناه محاولة إسقاط لحق العودة؟!
القضية إذن في أقل كلمات هي ليست بدفع النقود ولا بإلقاء الورود على أرواحهم، وإنما هي أننا مسئولون كامل المسؤولية عن حفظ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، ويجب علينا واجبًا أخلاقيًّا وحقًّا وطنيًّا أن نتمسك بقضيتهم ونعمل على حلها بأسرع وقت؛ لما لدينا من أوراق قوية يمكن استعمالها للي ذراع الاحتلال وإرغامه على الاعتراف بحق العودة للاجئينا، ولنأخذ من هذه المأساة حجة نحاجج بها المجتمع الدولي الذي يصدر قرارات دون تنفيذها بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، في حين تنفذ القرارات بالقوة لأي لاجئين غيرهم، والعمل بأقصى سرعة لحل قضيتهم، ومطالبته بحماية اللاجئين الفلسطينيين بكل الوسائل المتاحة حتى إرجاعهم إلى بيوتهم التي هجروا منها قسرًا.