رغم توقيع الاتفاق في القاهرة بين حركتي «فتح» و«حماس» قبل أيام لتسوية مسألة موظفي قطاع غزة والتقدم في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وبعد السجالات التي شهدتها الساحة الفلسطينية إثر العدوان الأخير على قطاع غزة، ما زالت أخطار كبيرة تحيط بصفقة المصالحة الفلسطينية.
لقد عانى الشعب الفلسطيني منذ صيف العام 2007 من تداعيات الانقسام الحاد بين القوى والفصائل المختلفة، وبشكل خاص بين «فتح» و«حماس». وعلى رغم الحديث المتكرر عن إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني الأسود، بعد تشكيل حكومة التوافق في تموز (يوليو) الماضي، فإن المتابع بات على يقين من وجود معوّقات أساسية تحول دون ترسيخ مصالحة حقيقية. وقد يكون من بين تلك المعوّقات الأساسية، الضغوط الخارجية من جهة وغياب القوة الضامنة لتوقيع الاتفاق وبالتالي الشراكة السياسية من جهة ثانية، ومحاولة أصحاب المصالح والامتيازات التي تولّدت بفعل تداعيات الانقسام الإبقاء على الجغرافيا السياسية المستحدثة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وهذا فضلاً عن المصالح الضيقة التي فرضتها التحولات في المشهد العربي خصوصاً في مصر وانسداد أفق المفاوضات مع "إسرائيل". ورأى محللون أن تشكيل حكومة التوافق الفلسطينية كان بمثابة عملية تكيّف وإدارة أزمة لحالة الانقسام الذي امتد لسبع سنوات خلت (2007 - 2014)، في وقت يتطلب فيه الظرف السياسي الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات المحدقة بالقضية الفلسطينية.
فهناك أولاً، إصدار "إسرائيل" خلال السنوات المذكورة حزمة من القرارات التي من شأنها الإطباق على مدينة القدس. وفي هذا السياق تشير تقارير إلى أن المؤسسة الإسرائيلية استطاعت السيطرة على 93 في المئة من مساحة القدس الشرقية، ناهيك عن بناء طوقين من المستوطنات يحيطان بالمدينة من الجهات الأربع ويتركز فيها نحو 185 ألف مستوطن إسرائيلي. وقد تم طرد آلاف المقدسيين بعد قرار تهويد التعليم في المدينة قبل ثلاث سنوات.
وثانياً، استغلت "إسرائيل" حالة الانقسام لتجعل من النشاط الاستيطاني العنوان الأبرز في سياساتها اليومية. الأمر الذي أدى إلى سيطرة كبيرة على أراضي الضفة الغربية لمصلحة المستوطنات الإسرائيلية التي وصل عددها إلى 151 مستوطنة يتركز فيها أكثر من 350 ألف مستوطن إسرائيلي.
وكنتيجة مباشرة لحالة الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني راحت مؤشرات البؤس تتصاعد بين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة. وتشير دراسات إلى أن معدلات البطالة وصلت إلى نحو ستين في المئة في غزة، وقد ارتفعت بعد العدوان الإسرائيلي الأخير كما هو متوقع. ونتيجة ذلك باتت الخيارات التعليمية والصحية ضعيفة، ومن أصل مليون وستمئة ألف فلسطيني في قطاع غزة ثمة 60 في المئة منهم تحت خط الفقر.
ويبدو المشهد السياسي الفلسطيني رمادياً مع استمرار حالة الانقسام الحقيقي على الأرض، وعدم وجود إرادة سياسية صادقة لإنهائه، وبات من الضرورة تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفصائلية الضيقة، بخاصة في ظل انكشاف صورة "إسرائيل" العنصرية ضد الشعب الفلسطيني سواء في الضفة والقطاع أو إزاء الأقلية العربية في "إسرائيل".
ويمكن تعزيز الاعتراف بفلسطين كدولة في المؤسسات الدولية إذا استطاع الفلسطينيون إنهاء انقسامهم وترسيخ مصالحة بالأفعال وليس بالأقوال، ومن ثم التوجه بخطاب سياسي ديبلوماسي موحد وجامع بعد وضع برنامج واسترتيجية مشتركة.
وفي هذا السياق لا يمكن أن تكتمل دائرة المصالحة الحقيقية، وتفعيل دور منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من دون مشاركة واسعة من الغالبية الصامتة من الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني والشتات - ونقصد بالغالبية الصامتة الفعاليات السياسية والاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني - لجهة حماية المشروع الوطني ورسم مستقبل الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه الثابتة. وقد يكون ذلك بمثابة جدار متين في مواجهة رؤى المؤسسة الإسرائيلية التي تسعى إلى جعل السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس في غزة مجرد شرطي لحماية المحتل الإسرائيلي وإنجازاته على الأرض الفلسطينية.
ويجمع متابعون بأن العودة إلى مربع الانقسام الفلسطيني إنما يخدم الموقف الأميركي والإسرائيلي، الرافض أساساً اتفاق المصالحة والذي جاء على خلفية هواجس عديدة، في مقدمتها أن الاتفاق سيكون بمثابة طوق نجاة للحد من الضغوط الإسرائيلية والأميركية على الفلسطينيين ويرفع في الوقت نفسه من سقف الخطاب السياسي الفلسطيني، بعد مفاوضات عبثية امتدت لأكثر من عقدين، بحيث يكون من السهولة بمكان المطالبة بتفكيك معالم الاحتلال، ومنها المستوطنات، عوضاً عن تجميدها، وكذلك يمكن المطالبة بتطبيق قراراتٍ دوليةٍ صادرة، ومنها تلك القرارات المتعلقة بالأسرى الفلسطينيين، والسيادة على المياه الفلسطينية التي تسيطر عليها "إسرائيل"، واعتبار المستوطنات غير شرعية، خصوصاً أن هناك قبولاً بعضوية فلسطين في العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة.
التحدّيات الجمة التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني تتطلب الإسراع بعقد مصالحة فلسطينية حقيقية تتعدّى الشكليات السابقة، بحيث يشارك فيها الكل الفلسطيني، لإنهاء حالة الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية من دون رجعة، نزولاً عند مطالبات الشعب الفلسطيني، عوضاً عن البحث عن تطور كيانين في قطاع غزة، والضفة الغربية، بمسميات فلسطينية كئيبة. فتجميع الجهد الفلسطيني والاتفاق على برنامج سياسي مشترك وخيارات سياسية وكفاحية مستقبلية من شأنها أن تحدّ من السياسات الإسرائيلية الجارفة وفي مقدمتها النشاط الاستيطاني الذي يقضم الأرضي، ويفرض جغرافيا سياسية إسرائيلية قسرية.