#غزة_تقاوم_لأجل_الحياة أحاول أن أهرب من الحرب وسيرتها وبشاعتها.. أستنهض يومي رغماً عن جسدي المنهك وعيوني المثقلة بالنعاس، فاستيقاظي لم يكن بسبب المنبه بل سيارة مسرعة في الشارع الأسفلتي القريب مني فأفقت على ذكرى مؤلمة
وجلست حتى أقنعت نفسي أنه صوت سيارة مسرعة ليس إلا، وبرمجت عقلي من جديد هنالك وقف لإطلاق النار. والنار تشمل أيضاً الصورايخ إذن هذا لس صوت صاروخ بل هو احتكاك سيارة غبية مبكراً.. تنهدت وقلت الحمدلله الذي أحيانا وقد متنا جميعاً..
أقف طويلاً طويلاً في الشارع الأسفلتي على أمل أن أجد سيارة واحدة تقلني إلى غزة.. أقلب عيناي في الأحياء الذين حولي.. بعضهم يجلس صامتاً كأنه لازال نائماً في استراحة السائقين أمامي، يجلسان على إحدى الطاولات لا يتكلمان يقلبنا نطرهما في الأرض في السماء في كراج السيارات والمحال التي حوله يتفرسون في عيون الناس الذين خرجوا وأثبتوا أنهم أحياء.. ربما اشتاقوا هذه الجلسة واعتقدوا أنهم لن يتمكنوا من العودة لمثلها..!!
أشيح بنظري عنهما فتسلبني نظرتها.. بالكاد تجد مكاناً لجسدها النحيل وسط أغراضها فرئات وبطانيات وأواني وأقمشة تلس على تكتك صغير وحدها وأكاد أجزم أنها جسداً بينما روحها تعلقت بالسماء.!! ربما ربما هي تبحث عن روحها الهائمة بعد أكثر من خمسين يوماً قتلتها الحرب وجعلتها لاجئة مدارس.. آه كانت قد خرجت من إحدى مدارس الإيواء.. لم تلتفت لتحديقي ولم تكترث كانت يدها على خدها والأخرى معلقة على إحدى زوايا التكتك الذي يقوده سائق هادئ جداً بالكاد يمشي.. على مهل.. ربما كانا لا زالا خائفان أن يخرجا مبكراً رغم أن وقف إطلاق النار كان في السابعة مساءًا من اليوم السابق..!!
توالى خروج الأحياء الذين رأيتهم أطفال أربعة أطفال صبية ترتدي ثياب الصلاة وأخرى أصغر سناً، وولدان يقودان كارة حمار ازدحمت بأشيائهم الصغيرة وتبدو على وجههم ملامح الحياة فقد لمحت ابتسامة الطفلة الصغيرة..آه عيني كاميرا ترصد أحاسيس البشر من كل الزوايا والعمق.. تعبت من النظر في وجوهه وفتحت حقيبتي لأبحث عن مرآة علني أراني لحظتها هل أنا مثلهم..!!
لم أجد مرآة ونسيت للحظة ما أبحث عنه.. غزة
أخيراً سيارة تقف إلى غزة..!!
ألقيت حملي في العربة الصغيرة وسارت السيارة على عجل كأنما تسابق تلك القذائف التي كانت تحطم الشارع الرئيسي الواصل بين المحافظات.. شارع صلاح الدين الأيوبي.. يا له من اسم يبعث على الحياة..!! كانت القذائف تتفر على طول الطريق فنالت كل البيوت والعمارات والشاليهات والمصانع التي كانت على اليمين واليسار نصيبها الكبير.. فتجد يد إحدى البيوت وقد سقط وبعضها سقطت عينها وأخرى ماتت.. نعم البيوت أيضاً كما البشر تموت وتحيا وتصاب وربما تصبح قعيدة..
***
قال لي سائق في إحدى الهدن كنت أخرج دائماً مع الصحافيين ورأت العجب في هذا الطريق.. لقد كنت أسير بسرعة هائلة هرباً من القذائف المدفعية وبعضها تفجر ونالنا منه بعض الشظايا لكن لم يكن هنالك بشر في الطريق.. كانت الحياة قد امتصتها القذائف وأحالتها للسواد والدمار..
تنهدت كثيراً طيلة الطريق.. أبحث عن ملامح الحياة لكن الحياة حزينة والناس لازالت مذهولة وخرت لا تصدق أنها لازالت على قيد الحياة.. كان لسان حالهم.. لقد نونا من مجرمي الحرب.. لقد كتب الله لنا الحياة.. كم نكره الاحتلال..!!
اقتربنا من إحدى الشوارع وتاه السائق المخضرم.. رفع يديه وقال أشهد أني تهت أذكر المكان والشارع جيداً لكن هل هنا الطيران..!! كان برج الباشا يتمدد كرجل مقتول وسالت دماؤه في مفرق الشارع بحجارته وطوابقه المتعددة.. كان كجثة هامدة فقدت الروح وأصابت من حولها من محلات وبيوت وعمارات بالوجع فكانت كلها تسيل دماؤها.. هتف الراكب بجانب السائق من هنا يمينا لا تخف.. يا رجل من هنا يميناً.. ظل السائق متلعثماً أربعون عاماً على خط غزة رفح وأحفظ شوارع كل المدن.. نسيت وتهت لعنة الله عليك يا "إسرائيل".. لقد غيروا معالم المدينة..!!
***
رأيت البحر..
البحر كان مخادعاً لم يأخذنا في حضنه كما توقعنا ولم يلقِ بأمواجه الغاضبة على دم أطفال غزة كان هادئاً بارداً زاد من آلامنا!! كيف لا يشعر البحر بغضبنا وقهرنا وموتنا؟؟ كيف يستقبلنا بدون أمواج وبدون ريح فقط قليلاً من الرذاذ؟!! هل البحر صديقنا أم أنه نسي أن يواسينا.. فلم يلق بواجب العزاء ولم يبكِ في حضرتنا!! ولم ينادِ أسماء شهدائنا الصغار لم يفعل شيئاً يذكر سوى أنه كان صامتاً لكنه لم يشعر بالحزن ولم يوهمنا بألمه أو حزنه لكل ما حدث في غزة من مجازر..!!
القصف عاد فجأة بهدنة خدعنا أنفسنا أننا قادرين أن نمارس هوايتنا الأخيرة بأن نرى ما نحب وأن ننتزع نفساً هادئاً للحياة.. الهواء العليل يدخل الصدر لكنه لا يجد متسعاً يعيد عبوسه مرة أخرى..انفجار هنا.. انفجار هناك تشتعل المياه وكأنما هذا ما أراده البحر قائلاً.. لست ملاذكم لست حاميكم.. اذهبوا فلا أرغب أن أشهد موت أحد آخر.. البحر إنسان أعلن حداده يوم قتلوا الصغار على شاطئه.. البحر صديق وفي لا يمكنه أن يبتسم في حضرة الموت.. البحر وجع كبير يأخذ ألم أهل غزة ويمتصه ويطحنه باكياً زاد البحر وكبر أكثر من قبل من شدة البكاء على تساقط أشلاء الصغار وانتهاك أحلامهم الصغيرة.!!
أيمن وياسمين ومريم وكريم.. كلهم جاؤوا بحثاً عن حلمهم بين رمال البحر لم يجدوا شيئاً وغادروا على عجل حين اخترقت رؤوسهم صوت الطائرات القاتلة.. هربوا بعيداً فلم يرغبوا أن يكونوا صيداً جديداً للحرب.. البحر لو له أبواب لكان أوصدها في وجه المتعبين والنازفين لأنه نازف الآن لا يقوى على حمل ألم طفل جديد في غزة..
للبحر سلام من قلوبنا وجرحنا سيأتي يوم قريب لنعانقك كصديق كما فعلنا سابقاً.. سيأتي يوم قريب نلقي فيه همومنا مرة أخرى ونغتسل من دمنا فأنت مالح كطعم أيامنا الآن.. حارقة حانقة.. سيأتي يوم قريب نتحرر من ذواتنا وننشد الفرح بدلاً من الحزن والقهر والانتظار.. سيأتي يوم نحمل فيه صغارنا ليلعبوا بأمان قربك وتلقي ببعض غيمات صغار حولهم..
البحر كما البيت حين ينهار على رؤوس أصحابه لا يجد في نفسه جرأة لينظر في عيونهم، البحر يحيد بنظراته بعيداً عن قلوبنا لا يستطيع أن يمد يديه ليحتضن بكاءنا فنحن لم نعد نبكي في حضرته وهو لم يعد يبكي في حضرتنا..
البحر وغزة عشيقان سيجدان وقتاً قريباً للحب..
* كاتبة إعلامية فلسطينية- غزة