"كان يوم الحادي عشر من يوليو 2014 هو آخر سحور مع عائلتي، آخر رمضان مع عائلتي، آخر سحور في بيتي..!!"
هكذا بدأ الشاب العشريني "حسام الغنام" قوله بعد أن أخرجوه حيا من تحت أنقاض بيتهم بعدما استهدفته قوات الاحتلال الإسرائيلي بـثلاثة صواريخ حربية دفعة واحدة دون أي انذار أو مبرر لاستهدافهم وذلك في منطقة يبنا في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في رفح.
خرج من تحت الأنقاض والركام في حين استشهد كل أفراد عائلته الذين كانوا متواجدين في بيتهم برفح، استشهدت أمه غالية وابيه عبد الرازق وأخيه محمود وأخته وسام وابنة خالته كفاح.
حسام بالكاد يتمكن من الكلام كأنما توقفت حياته لحظة فقد عائلته، ولحظة الانفجار التي عاشها وحده لأنهم جميعا ارتقوا شهداء.
يقول حسام: "آخر ما جمعني بعائلتي سحور فجر الجمعة، تناولت السحور وأختي وأمي وأبي وابنة خالتي، ناموا جميعهم بالصالون كالعادة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأنا توجهت لغرفة أخي المسافر ونمت ما يزيد عن ساعة بعد الصلاة، وأفقت وأنا أظن أني احلم على اهتزاز عنيف بالبيت شعرت أن كل شيء يتحرك تحتي.. النافذة طارت في غرفتي هرولت إلى باب الشقة فلم أتمكن من فتحه كانت الحجارة والردم بكل مكان، عدت مرتعدا إلى الغرفة فشعرت بصاروخ آخر يهز البيت وحينها وقعت على جسدي من شدة القصف خزانة الملابس، ثم شعرت بحيطان الغرفة تنهار من حولي وفوقي وبدأت أشعر باختناق شديد نتيجة التراب والغبار والردم وشعرت بفقدان وعي، هذا كل ما أذكره لحظات القصف".
يبتلع حسام ريقه ويبدو كأنما في عالم آخر على إثر الصدمة العنيفة التي تلقاها فقد استفاق على يد العشرات من المنقذين من الدفاع المدني والجيران حين رفعوا عنه الردم وخزانة الملابس الخشبية التي سقطت على جسده فحمته من الموت المحقق، ولم يصدق المنقذون أني على قيد الحياة حتى وصولي إلى مستشفى الأوروبي ولم أكن أستوعب ما حدث لي ولعائلتي.
***
ليلة واحدة أنقذتها من الموت
نور الغنام ابنة السادسة عشرة عاما فتاة رقيقة تبدو عليها ملامح الصدمة والألم بعد أن فقدت عائلتها وبيتها في لحظات تقول ما قبل فاجعة الاستهداف لعائلتها: "كنت وأختي طيلة الوقت ببيتنا في مخيم اللاجئين في يبنا منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وكنا نخشى كباقي العائلات من الانفجارات طيلة الوقت التي تستهدف منازل المواطنين، وكانت أمي غالية طيلة الوقت تهون علينا وتقول لا تخفن، الله معنا، وليس لدينا ما نخافه، كنا ننام في ممرات الشقة والصالون كلنا، ونحاول أن ننام على الأرض اعتقادنا منا أن هذا سيحمينا من القصف الإسرائيلي المتواصل علينا في مدينة ومخيم رفح".
وتضيف نور: "قبل فاجعة استشهاد عائلتي كنت معهم بالبيت لكني تعبت كثيرا وكانت المرة الأولى التي أشعر بها بخوف شديد من قوة الانفجارات التي حولنا بالمنطقة، وأصابتني حرارة مرتفعة ولم تكن قدماي قادرة على حملي، وكان وضعي الصحي يتردى أكثر فأصرت أمي أن أذهب إلى بيت أختي في حي الجنينة كي تأخذني لطبيب أو لأرتاح قليلا، وفعلا في اليوم التالي أخذوني إلى بيت أختي وكان أخي الشهيد محمود سيأتي معي إلا أنه عاد وقال أنه لن يترك أمي وحدها وأبي وسيبقى معهما، كذلك أختي الشهيدة وسام كانت ستأتي معي إلا أنها عادت وأصرت على البقاء مع أمي".
وتقول نور بلوعة: "كنت سأكون معهم أنا وأختي صمود لولا مرضي وارتفاع درجة حرارتي كنت الآن شهيدة أيضاً..!!"
وتضيف قائلة: "أختي صمود عروسة عرسها كان مقررا رابع يوم عيد الفطر، أمي اختارت جهازها بأكمله وكنا قبل العدوان نجهز لعرس يليق بأختنا، الجهاز كله راح في القصف مع البيت ومع أمي وعائلتي... كيف بدنا نعمل بعدما أمي استشهدت وأبوي واخوى وأختي. يالله كيف بدنا نعيش بعدهم؟!"
غرقت نور في بكاء وانتابتها نوبة ألم ولوعة على عائلتها وبيتها وقالت من بين دموعها .. حسام أنقذوه بأعجوبة من الدمار لكنه لا يقوى على الحياة؟ غير قادر على استيعاب ما حدث يبدو في عالم آخر لا يصدق ما حدث ولا يصدق أنه على قيد الحياة..!!
وتتدخل ريم الغنام أختها المتزوجة في بيت آخر (33) عاما قائلة: "أمي دائما كانت تقول يارب إذا بدك تموتني وأنا صائمة ويوم جمعة وربنا أعطاها ما تريد.. رغم أنها كانت تحضر وتجهز لعرس أختي صمود إلا أنها رحلت قبل العرس وأخذت معها كل فرحتنا وذكرياتنا".
وتضيف ريم: "كلمتني أختي الشهيدة وسام قبل استشهادهم بنصف ساعة وقت السحور وكانت تضحك بينما كنت أقول لها ليتك أتيت مع نور فقالت لا تخافي علينا هم قبل تفجير البيوت يلقوا عليها صاروخ تحذيري وملابسي أرتديها طيلة الوقت فسنهرب بسرعة من المنزل ونبقى على قيد الحياة. فلا تخافي علينا. ثم أوصتني بابني الصغير حيث انها من ربته وأحبها مثلي تماما، كما وأرسلت لي بعد مكالمتي رسالة على الجوال توصيني بابني بأن أمنحه حبا وحنانا إذا حدث معها أي شيء".
وتبكي ريم مؤكدة أن شقيقتها كأنما كانت تودعها وتخبرها بما سيحصل بعد دقائق معدودة.
تركت نور وحسام وريم الذين أدماهم مشهد أشلاء عائلتهم وبيتهم الذي بات أثرا بعد عين.. تركتهم يعانون الصدمة واللوعة والفقدان وبالكاد يتلقون العزاء في بيت أختهم لمن يتمكن من الحضور وليحدثوهم عن عائلتهم التي دفنها التراب.
* كاتبة إعلامية فلسطينية- غزة