يعاني كيان الاحتلال الصهيوني في السنوات الأخيرة فوبيا "الخوف من انتزاع الشرعية"، أو سقوط صورة الدولة "الديمقراطية"، وهي تهمة لطالما ألصقتها بالسلطة الفلسطينية خوفاً أو منعاً لمحاولاتها للحصول على اعتراف أممي بكونها دولة عضو في الأمم المتحدة.
لكن جرائم الاحتلال وممارساته القمعية والتعسفية بحق الشعب الفلسطيني وآخرها الحرب العدوانية على غزة تحت مسمى "الجرف الصامد" تكفي لزعزعة بل لهدم "صورة إسرائيل"، وهذا ما أظهره المزاج الشعبي بمختلف مستوياته، والمواقف السياسية اللافتة للولايات المتحدة وأوروبا.
ففي دراسة نشرها معهد ريؤت العبري عام 2010 تحت عنوان "تناقص شرعية إسرائيل على الساحة الدولية" حذر من انخفاض شرعية وصورة إسرائيل على الساحة الدولية وربط ذلك بعدم التقدم بعملية التسوية، والأهم من ذلك الجرائم التي ارتكبت في عملية "الرصاص المصبوب"، فالمظاهرات والفعاليات التي عمّت أرجاء العالم، وخصوصاً في أوروبا والأمريكيتين، وحملات المقاطعة بمختلف صورها وأشكالها وتشبيه إسرائيل كنظام فصل عنصري، هي إشارة واضحة على تناقص شرعية وصورة إسرائيل.
لكن هل تعلمت إسرائيل الدرس؟ أبداً فالوقاحة والمكابرة وتزوير الحقائق لتغطية الجرائم هي طبيعة متأصلة وملازمة لها.
وكعادتها، تكرر إسرائيل اتهام المقاومة الفلسطينية باتخاذ المدنيين دروعاً بشرية - وهي تهمة قديمة بالية - بل وحاولت خلط الأوراق بتصوير المقاومة الفلسطينية منظمة إرهابية "كداعش" في محاولة يائسة لخداع الرأي العام الدولي، بل وضاقت ذرعاً بكل المظاهرات والدعوات المستنكرة للجرائم في غزة، وللتغطية الإعلامية التي اعتبرتها منحازة ومؤيدة للفلسطينيين، وهو ما عبّر عنه أكثر من مسؤول إسرائيلي.
لكن ما هو ملفت للنظر في هذا السياق ما كتبه البروفيسور إفرايم كارش أستاذ الدراسات في جامعة بار إيلان، وكينغز كولدج في لندن، تحت عنوان "معاناة الفلسطينيين تستخدم لتشويه صورة إسرائيل"، عبّر فيه عن عدم فهمه كيف يمكن لمواطنين في مجتمعات ديمقراطية أن يحتضنوا أكثر منظمة إرهابية مجرمة في العالم؟ وكذلك ما كتبه البروفيسور إيتان جلبويه من جامعة بار إيلان تحت عنوان "فشل المهنية الإعلامية الغربية في غزة" حيث اتهم الصحفيين الغربيين في غزة بعدم تغطية الصواريخ الموجهة من غزة إلى إسرائيل، بل فشلوا كونهم اختزلوا المشهد بتغطية الضحايا من النساء والأطفال من الفلسطينيين.
لكن يتساءل الإنسان فعلاً، هل الناس أغبياء لكي يتم خداعهم بسهولة، أم ماذا؟؟
هل رئيسة البرازيل ديلما روسيف التي وصفت ما يحصل في غزة بالمجزرة لا تعرف ما تقول؟؟؟
هل الرسالة المفتوحة التي نشرتها مجلة لانست البريطانية الطبية العريقة في الآونة الأخيرة مذيلة بتوقيع 24 طبيباً من مختلف أنحاء العالم "الى غزة"، والرسالة المفتوحة "للأكاديميين في إسرائيل" الموجهة من أكثر من 1500 أكاديمي من مختلف الجامعات في العالم، مستنكرة فيها الجرائم في غزة، ومسهبة في الحديث عن مخلفات الحصار الجائر على القطاع والحروب التي خاضها وما سببته من كوارث، هي رسالة منحازة؟ أم أناس لا يعلمون ما يجري؟؟؟
هل المظاهرات التي عمّت أنحاء العالم والتي وثقها آدم راسغون وجافي برنهارد من مركز دراسات الشرق الأدنى في واشنطن في الآونة الأخيرة، والتي خرجت من لندن وباريس وفيينا وأمستردام ودبلن وأوسلو وزيوريخ وستوكهولم ومدريد وبالفاست وجنوب أفريقيا وتركيا، هي مظاهرات منحازة لم تشاهد الصواريخ تسقط على إسرائيل؟؟؟
هل سكان مدينة كنفارا الإيرلندية التي قررت فيها المطاعم والصيدليات والمقاهي وتجار التجزئة مقاطعة البضائع الإسرائيلية، هم أناس لا يفقهون مصالحهم؟؟
أم مشاهير هوليوود وما نشرته مجلة الغارديان عنهم تحت عنوان "هوليود منقسمة فالمشاعر مرتفعة فالممثلون والمشاهير يتحدثون عن غزة وينتقدوا إسرائيل" لا يعلمون؟؟
وأخيراً هل الهولندي "هينك زانولي"- الحائز على ميدالية "الصالحين من بين الأمم" لإنقاذه طفلاً يهودياً في الحرب العالمية الثانية والتي قامت إسرائيل بقتل أفراد من عائلته في غزة، هو أيضاً منحاز بعد إعادته الميدالية احتجاجاً، هو مواطن في مجتمع ديمقراطي يحتضن منظمات إرهابية؟؟
سوف يتذكر العالم دائماً كما قال دايفيد روثكوف من مجلة الفورين بوليسي في مقاله "حول هزيمة إسرائيل في غزة" الأولاد الأربعة الذين كانوا يلعبون على شاطئ غزة وكيف قتلتهم إسرائيل، فلا يوجد قبة حديدية - برأي روثكوف - سوف تحمي إسرائيل من هكذا مشهد، ولن تمحي من الذاكرة صور الدمار والمذبحة المروعة التي قامت بها.
هذا المشهد الذي كان كافياً لإسقاط القناع عن إسرائيل كان له صداه في الخارج، على المستوى الشعبي والسياسي والدبلوماسي، وحتى الاقتصادي، فبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً، ذكر آري شبيط من صحيفة هآرتس ما سماه معاناة الطلاب اليهود في أوروبا وأمريكا من الكراهية التي تحيط بهم في الجامعات بسبب العدوان الأخير على القطاع، ناهيك عن الحوادث التي وقعت في فرنسا وغيرها حيث حصلت مواجهات مع العديد من التجمعات اليهودية التي حاولت استفزاز الناس في مظاهراتها الداعمة لإسرائيل.
سياسياً وبالرغم من ضعف المردود حتى الآن، فإن العلاقة مع الولايات المتحدة ليست بأفضل حالاتها، فالحليف الاستراتيجي لإسرائيل لم يستطع أمام هول المجزرة والتي وقعت تحديداً في رفح، والتدمير الممنهج والمقصود للمدارس التابعة للأونروا أدى إلى تجميد واشنطن تصدير بعض الأسلحة خلال الحرب لإسرائيل، وكذلك حذت حذوها كل من إسبانيا وإيطاليا فجمدت تراخيص بعض الأسلحة، وهو ما تخوفت منه هآرتس، حيث استبعدت فرض حظر للأسلحة ولكن المسار حتى الآن غير مشجع.
دبلوماسياً وفي إطار سحب السفراء للتشاور قامت كل من تشيلي والسلفادور والبرازيل والبيرو والأكوادور بالقيام بهذه الخطوة غير عابئة باتهامات إسرائيل لها بتشجيع الإرهاب.
وكذلك على المستوى الاقتصادي وفي إطار العقوبات كرسالة واضحة على ما يجري في غزة برأيي بعض المراقبين فقد حظر الاتحاد الأوروبي استيراد الدواجن والألبان من المستوطنات الإسرائيلية.
هذا المسار وهذه المواقف الآخذة في التصاعد الفاعلة جداً شعبياً والخجولة سياسياً بحاجة إلى مآزرة عربية وبالدرجة الأولى فلسطينية، لكي تفعّل وتأطر في سبيل الضغط على إسرائيل، ويجب على الفلسطينيين الاستفادة من هكذا مناخ والاستثمار فيه، وألا تحسب السلطة الفلسطينية أي حساب لإسرائيل، التي لم تحسب أي حساب للعالم....... فلقد أسقطت قناعها.