حرب ضروس قادها بنيامين نتنياهو وجيشه على غزة في محاولة لمنع إيقاف الصواريخ، تلتها عملية برية لاكتشاف الأنفاق وتدميرها، هي مهمة محددة جغرافياً، وموجهة نحو هدف واضح، ولكن هذه المهمة يقال عنها أي شيء غير أنها سهلة كما وصفها يعقوب عمدرور المستشار الأمني السابق لنتنياهو، والباحث في مركز بيغن السادات.
لم يكن جيش الاحتلال يعلم ماذا أعدت المقاومة، وما هي قدراتها، ولم يتوقع مفاجآتها، فاستطاعت هذه المقاومة أن تدهش العدو، وهي في نظر محللين كيعقوب عمدرور أضعف عدو متبقي لـ"إسرائيل"، فتحدت جيش الاحتلال ولم تظهر طوال فترة الحرب على غزة أية ضعف، ولم تظهر كل أوراقها كما ألمح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في إحدى مقابلاته.
كثير من المحللين الاستراتيجيين فضلاً عن بعض السياسيين عند بداية العدوان نادوا وشجعوا الدخول في حرب برية مؤقتة على غزة كعمدرور ووزير الأمن الداخلي آفي دكتر وغيرهم من المفكرين، كحل لإضعاف حماس وحتى إنهاء المقاومة، وغيرهم خفض الآمال وأعطى لهذا الدخول البري معنى سياسي كالخبير في الأمن القومي جيفري وايت من مركز دراسات الشرق الأدنى، الذي أطر هذا الدخول كرسالة مفادها أن "إسرائيل" لا تخشى الدخول مع المقاومة في معركة برية، وأن الضغط والألم سيزداد طالما أن المقاومة لن ترضخ لشروط "إسرائيل" للتهدئة، وأن التقارير الإسرائيلية تفيد أن المقاومة ستتجنب المواجهة المباشرة مع الجيش وأنه سيواجه مقاومة ضعيفة.
لكن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تحولت من عدو يوصف بأضعف أعداء "إسرائيل" إلى كابوس، لا يمكن التخلص منه، وانتقل الحديث اليائس من التخلص من المقاومة، إلى الحديث عن فقدان الجيش إبداعه، والمناداة بقتل القادة السياسيين على أمل أن تنهار المقاومة، كما كتب ميشال بار زوهار في صحيفة "رأي إسرائيل".
لكن ما الذي حققته المقاومة في هذه الحرب من إنجازات عسكرية؟
يتحدث المقدم ألون باز من جيش الاحتلال الإسرائيلي ونداف بولاك وكلاهما باحثان زائران في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في دراسة تحت عنوان: "حكمة في العمليات وسط معاناة في الاستراتيجيات"، نشرت مؤخراً، تتحدث عن حكمة المقاومة في هذه الحرب والتي تمثلت في أبعاد ثلاثة :
أولاً: اتخاذ زمام المبادرة، وهي خطوة استفادت منها المقاومة بشكل فعال، إذ فوتت على الكيان الإسرائيلي شنّ ضربة أولى مفاجئة، وفعالة، وهي ميزة حسب ألون ونداف، نجحت فيها "إسرائيل" في عملية الرصاص المصبوب عام 2008 و2009، وعامود السحاب عام 2012، والتي حققت في نظرهم القضاء على معظم صواريخ المقاومة البعيدة المدى، والتي أودت بحياة القائد العسكري لحماس الجعبري.
ثانياً: منهج اقتصاد الصواريخ، فمنذ نهاية عملية عمود السحاب أواخر عام 2012 عمدت المقاومة الفلسطينية إلى مضاعفة صواريخها مما أتاح لها إطلاق 120 صاروخاً ذات مدى متفاوت يومياً، وفي إحصاء نشرته حركة الجهاد الإسلامي في نشرتها الشهرية، العدد الثامن والتسعين، بلغ عدد الصواريخ التي أطلقتها حتى اليوم الثلاثين من العدوان، 1469 صاروخ، من مختلف الأنواع، وأكثرها تأثيراً الصواريخ البعيدة المدى، وهو ما أتاح للمقاومة في نظر المقدم في الجيش الإسرائيلي تحقيق ثلاثة أهداف: استهداف أكبر عدد ممكن من السكان الإسرائيليين بالقصف الصاروخي بشكل متواصل، محاولة تخطي طاقة الاستيعاب القصوى لنظام الدفاع الجوي المعروف بالقبة الحديدية، الإثبات أن المقاومة قادرة على الوقوف على قدميها في المعارك حتى لو كانت "إسرائيل" تنفذ عملياتها في غزة.
البعد الثالث: هو أن العملية البرية لـ"إسرائيل" كشفت شيئاً فشيئاً عن البنى التحتية المعقدة للأنفاق التي طورتها المقاومة ...وهذه المنظومة تتيح في نظر الباحثين التسلل إلى "إسرائيل" ومحاولة "ارتكاب مجازر جماعية"، والسماح للوحدات المقاتلة للمقاومة بتطويق القوات الإسرائيلية في غزة ومن حولها - وهو ما حصل فعلياً بعد ذلك - والأهم تنقل أفراد المقاومة بحرية بين مركز وآخر متجنبين بذلك التعرض لاستهدافات الجيش الإسرائيلي في غزة.
بموازاة هذه الإنجازات نجد في المقلب الآخر، أن المستوطنين وخصوصاً مستوطنات غلاف غزة، أظهروا حالة من الرعب بعدم العودة إليها، وذلك بفعل صواريخ المقاومة الفلسطينية، مما حدا بمستوطني ناحال عوز بالقيام بحملات احتجاجية ضد الحكومة التي دعتهم إلى العودة إليها في فترة التهدئة، حيث استقبلتهم الصواريخ، مما حدا بالنائب الإسرائيلي إيتان كابيل رئيس كتلة حزب العمل المعارض في الكنيست بش هجوم عنيف على نتنياهو داعياً إياه للاستقالة، واستدعت هذه التحركات قيام الجنرال في الجيش الإسرائيلي سامي ترجمان بزيارة لتلك المستوطنات في محاولة لطمأنة المستوطنين والاعتذار منهم، لكنه اعتذار مجبول بطعم الهزيمة، قائلا: "لقد أخطأنا بدعوتكم للعودة مجدداً، الهجمات الجوية التي قمنا بها لم تأت بحلول، ولم تنجح بتدمير الأنفاق".
هذه الهزيمة العسكرية والنفسية والمعنوية في الجيش والتي ترجمت غضباً أعمى وجنوناً على المدنيين في قطاع غزة قتلاً وتدميراً، سلب من "إسرائيل" الدعاية الغربية في كونها دولة مكروهة ومحاربة ومستضعفة إلى دولة مجرمة تقتل الأطفال والمدنيين، وتستهدف المدارس الخاصة بالأونروا التي تعج بالمدنيين من الأطفال والنساء بالرغم من تحذير الأمم المتحدة من استهدافها، ناهيك عن دور العبادة، كل هذا استدعى رداً من الأمم المتحدة -لا يتعدى كونه كلامياً- متهمة "إسرائيل" بارتكاب جرائم حرب، ومظاهرات عمت أرجاء أوروبا وأمريكا المسرح التقليدي لـ"إسرائيل"، حيث أسقطت هذه الدعاية، وتحول المزاج الشعبي الأوروبي إلى مناهض لـ"إسرائيل" وأفعالها الجرمية، مما حدا بدولة كالسويد وفق مصادر أن تمنع طائرة نتنياهو من المرور في مجالها الجوي أثناء الحرب.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أوردت العديد من المصادر الصحفية أن حكومة الاحتلال عمدت إلى تشكيل لجان دفاع عنها مختلطة من عدة وزارات، حيث اعتراها الخوف والرعب من محاكمتها دولياً، ناهيك عن مخاوف أفراد جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين يحملون جنسيات مختلفة من محاكمات في دولهم، فالعديد من الجمعيات المناصرة لفلسطين في صدد رفع دعاوى على جنود وضباط في جيش الاحتلال وفق قوانين البلاد التي ينتمون إليها، وآخر ما ورد من معلومات في هذا الخصوص، فتح دعاوى قانونية في جنوب أفريقيا لمحاكمة خمسة أفراد من جيش الاحتلال الإسرائيلي، من حاملي الجنسية الجنوب أفريقية، وفق قانون البلاد الذي ينص على معاقبة وحبس كل من يشارك في حروب خارج حدود بلاده.
فهل ستوفق المقاومة باستثمار هذا الإنجاز وفرض شروطها على المحتل، وإجباره على رفع الحصار كأقل مطلب، هذا الأمر مرهون بالحنكة والصلابة السياسية وفق إنجازات المقاومة وتضحيات الشعب الذي التف حول المقاومة وقيادتها، وهذا ما سوف تثبته الأيام.