قبيل استقبال الغزيين عيد الأضحى تحت وقع الانتصارات، كان قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي بني غانتس يدلي باعترافات عن الحرب في غزة تحت وقع الهزيمة، هي اعترافات لا كالاعترافات التي نعلمها، فهو لم يؤد قسم اليمين المعهودة ألا يقول إلا الحق أمام المحكمة الصحافية للصحافيان إليكس فيشمان ويوسي يهوشع من جريدة يديعوت أحرنوت .
خلال المقابلة لعب الصحافيان دور القاضي، مستفزين غانتس في أكثر من مناسبة لمعرفة "الحقيقة"، فنجحا في استثارة غضبه عدة مرات، لكنه دأب على المثول أمامهما كالقائد الممسك بزمام المقابلة، مجيباً عن أسئلة، وغاضاً الطرف عن أخرى، وفي ظل حمئة "الاستجواب" اعترف خلال تلك المحاكمة، أنه يحترم ثبات المقاومة الفلسطينية، وأنه معجب بأدائها، خصوصاً أنها صمدت خمسين يوماً، في نظره، فالواحد والخمسون يوماً التي تحدثت عنها المقاومة، والتي استبقت فيها المقاومة استهداف "إسرائيل" بالصاوريخ كما يدعي غانتس، هي يوم زائد "بغير وجه حق"، فضاقت عين غانتس حسداً بهذا اليوم .
بدأ غانتس بالاعتراف مزهواً ومفاخراً بمآثر جيشه في الحرب البرية على قطاع غزة، مستدلاً بالمدائح التي أغدقت على جيشه من مختلف الضباط في العالم، فبنظره ما حققه جيشه لم يسبق له مثيل، ومضيفاً من الفخر بيتاً، "لقد وضعنا لهم معايير لا يعرفون ما يفعلون بها"، لكن لا يلبث لهذا الزهو أن ينكسر، فيتمتم قائلاً نحن "متجهون مع هذا الانتصار إلى التحقيق فيما حدث، وهو يشمل سلاح الجو"، مذكراً الصحافيين بنقيض ما قاله سابقاً، إن سلاح الجو الإسرائيلي هو الأفضل في العالم.
سلاح الجو الأفضل في العالم لم يرفع معنويات المجلس الوزاري المصغر، فلغة التشاؤم والتصريحات المرتبكة خلال الحرب بدت واضحة، لكن نظرة غانتس الاستعلائية ضمت المجلس الوزاري المصغر إلى بقية الدهماء في الشارع الإسرائيلي "أنا لا أفتح الفيس بوك لأتخذ قراراتي، نحن لا نعمل بحاجات الشارع، بل بمسؤولية ومهنية"، لكنه استدرك الموقف - فللطاقم السياسي احترامه - مذكراً الصحافيين بقراره منذ توليه مسؤولية الجيش بأمره الضباط عند حضور جلسات المجلس الوزاري المصغر، أن يدلوا بآرائهم واقفين، احتراماً وأخلاقاً.
وبدل أن يرد المجلس الوزاري الجميل لغانتس، فقد خانه عدة مرات، عندما استمع لتقديرات الوضع في حرب غزة من قبل جنرالات في جيشه بدون علمه، فأردف قائلاً وبحزم "أنا مدير هذا الجيش، ولقد ضبطت هذه الاتصالات"، لكنه ما لبث أن تقمص دور القاضي وأصدر حكماً تخفيفياً، تحت عنوان حرية إبداء الرأي لقادة الجيش.
ثم دخلت المحاكمة في الملفات الشائكة والمعقدة، فالحرب استغرقت خمسين يوماً – بالحسابات الإسرائيلية – والصواريخ استهدفت مختلف المدن في فلسطين المحتلة، فأومأ بني غانتس أنه غير راض، وأوعز هذا الأمر إلى سوء التقدير، فما كان من فيشمان ويهوشع إلا أن يضغطا على موقف غانتس الضعيف، ليوجها له ضربة قوية، تخلخل دفاعاته، فأدخلاه في متاهة أنفاق المقاومة في غزة، فتهرب من الجواب المباشر، معتبراً أن الجيش كان لديه علم بالأنفاق ووضع خططاً مسبقة لها، ولكنه كان يتعامل معها بشكل يومي، على غير المخطط له، مختتماً حديثه بالقول "هذا هو الجميل في الحرب".
وهل كل ما في الحرب جميل؟ فالمخاطر الأمنية المحدقة بـ"إسرائيل" كبيرة من جهات عديدة، والحرب في غزة استنفذت الكثير من الذخائر، فهل أحدثت غزة عجزاً في احتياط الذخيرة لدى الجيش كانت معدة لجبهات أخرى؟ يجيب غانتس متوتراً ويفاجئنا بكمية الحقد الإسرائيلية، أن القرار كان في الحكومة، الإصرار على استهداف غزة مهما كان الثمن وبنفس الوتيرة، لكن الجيش لم يحقق شيئاً، فيستشيط غضباً، بعد هذا الاعتراض ليسكت محاوريه بجواب غير واضح وليزيد الغموض غموضاً "لقد فعلنا ما أردنا فعله".
وبالرغم من أجواء فرض الاحترام التي حاول غانتس أن يضفيها على أجواء اللقاء، والرد على الأسئلة بجدية وحزم، إلا أن رتبته كقائد جيش لم تشفع له من استهزاء فيشمان ويهوشع به عندما ذكراه بخطاب ألقاه في الحرب داعياً فيه المستوطنين من غلاف غزة للرجوع إلى مساكنهم وهي غير آمنة حيث تعرضت للقصف، فكان جوابه مدعاة للضحك والسخرية، "الإسرائيليون لم يفهموا خطابي" – وكأنه يتكلم السنسكريتية – وفي سؤال هل أنت نادم؟ أجاب لا، لكنه يؤلمه تألم أناس آخرين، وبالتأكيد هو لا يقصد تألم الغزيين.
فيشمان ويهوشع لم تنطل عليهم حيلة ادعاء الحزن على "الإسرائيليين المتألمين"، فهذا الشعور الزائف لا يعزي الإسرائيليين فالمقاومة الفلسطينية أطلقت المئات من الصواريخ، وأثبتت أنها قادرة على الثبات والصمود، وبالرغم من أن "أفضل سلاح جو في العالم"، استهدف تسعمائة هدف في غزة، فإن على غانتس أن يحتفظ بتلك المشاعر لنفسه، فيرضخ بني غانتس محبطاً تحت وقع ضربة قاسمة مصرحاً بما لا يمكن إنكاره "العدو الذي واجهناه عمل بطريقة مميزة، وأنشأ بنية تحتية، وأعد نفسه لمعركة طويلة، وبنى نفسه بناءً صحيحاً، كي يبقى في هذا النوع من القتال" وختم كلامه قائلاً "أنا أعتقد أننا لا يمكن إلا أن نحترم ثباته".
هي اعترفات غير ذي مصداقية كاملة، كذبتها "المعارضة الإسرائيلية" ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي محاكمة غير نزيهة، فالاعترافات ناقصة والأجوبة مشوشة، والقاضيان متواطئان، وغاب عنهما مع سبق الإصرار والترصد حسب "المعارضة الإسرائيلية"، السؤال عن أهداف الحرب وعلى رأسها القضاء على صواريخ المقاومة التي وعد غانتس بالقضاء عليها قبيل الحرب ، ولكن الأهم من ذلك، ماذا عن الأسرى الإسرائيليين في قبضة المقاومة، والأعداد الحقيقية للقتلى والجرحى من الجيش الإسرائيلي، وعدد الدبابات المدمرة، وقوة الالتحام الأرضي مع المقاومة، والمدارس والمستشفيات والأبنية السكنية التي استهدفها الجيش "الأخلاقي الإسرائيلي" في غزة، والخوف من الملاحقة القانونية لضباط الاحتلال كمجرمي حرب؟؟.. وغيرها كثير .
غانتس، ستذكر محكمة التاريخ ما أخفيته عمداً، ولو بعد حين.