على الرغم مما يتعرض له شعبنا وأهلنا في قطاع غزة من مجازر وجرائم حرب وإبادة جماعية، ولكن يجب علينا أن ندرك بأن العدو يسعى بكل الطرق والوسائل إلى إحكام سيطرته بشكل نهائي على مدينة القدس..
وهو عندما شعر بأن جل اهتمام شعبنا والعالم منصب على قطاع غزة، وجد بأن الظرف مؤات من أجل أن يتقدم خطوة أخرى على طريق فرض حقائق ووقائع التقسيم الزماني أولاً على المسجد الأقصى، وهو يستبق هذه الخطوة الآن المتوقع تنفيذها في أي لحظة بعمليات دهم وتنكيل وقمع وإعتقالات واسعة بحق المقدسيين، طالت حوالي ستين شاباً وطفلاً مقدسياً منتصف الليلة الماضية وصباح اليوم، ومن أجل الضغط على الأهالي والتنكيل بهم، وليس فقط بأبنائهم، تم تحويل ملفات محاكمتهم إلى محكمة صلح بتل أبيب وليس القدس، ومن المتوقع لمثل هذه الإعتقالات أن تستمر وتتصاعد، في ظل إستمرار الهبات الجماهيرية المتصاعدة والمستمرة في مدينة القدس، حيث لم تهدأ منذ جريمة خطف وتعذيب وقتل الشهيد الفتى محمد أبو خضير حياً في الثالث من تموز الماضي.
الإحتلال شرع بشكل عملي في عملية التقسيم الزماني للأقصى من خلال منع طلبة العلم والمرابطين وطلاب المدارس من دخول المسجد الأقصى من الساعة السابعة والنصف صباحاً وحتى الساعة الحادية عشر صباحاً، وقد سبق ذلك خطوات بتقيد دخول المصلين للمسجد الأقصى بحيث منع من هم دون سن الـ(50) من الصلاة، ولأول مرة منذ عهد الإحتلال يمنع المسلمين من إحياء ليلة القدر، ناهيك عن الإعتقالات وعمليات الإبعاد عن المسجد الأقصى والبلدة القديمة، لمن يتولون عملية الدفاع والتصدي لقوات الإحتلال والمستوطنين وجمعياتهم الإستيطانية وكل الحركات المتطرفة تلمودية وتوراتية التي باتت تقتحم الأقصى بشكل يومي وإستفزازي وتمارس في ساحاته أعمال البلطجة والزعرنة وتؤدي طقوس توراتية وتلمودية بمرافقة حاخامات ووزراء واعضاء كنيست في المقدمة منهم الحاخام المتطرف "يهودا غليك" ووزير الإسكان "أوري اريئيل" ونائب رئيس الكنيست المتطرف "موشيه فيجلين" وغيرهم.
وفي تطور لافت للنظر على قضية التقسيم الزماني، أبلغت وزارة الخارجية الإسرائيلية الحكومة الأردنية بإعتبارها صاحبة الوصاية على المسجد الأقصى والأماكن المقدسة وفق الإتفاقية الفلسطينية - الأردنية للدفاع عن القدس والمقدسات بتاريخ 31-3-2013 بأنها بصدد تطبيق التقسيم الزماني، تحت حجج وذرائع وقف عمليات المواجهة اليومية بين المواطنين المقدسيين والمستوطنين، والحكومة الأردنية بدورها نقلت ذلك لدائرة الأوقاف الإسلامية، والتي عقدت عدة إجتماعات ولقاءات مع شخصيات مقدسية ومن الداخل الفلسطيني، لتدارس الموقف وكيفية الرد والتصدي لمثل هذه الخطوة الإستفزازية وبالغة الخطورة، والتي تمهد لتطبيق ما جرى من عملية تقسيم للحرم الإبراهيمي في الخليل على المسجد الأقصى، وأنا لست بصدد التطرق للخيارات المطروحة الآن، ولكن ما أشدد عليه بالقدر المطلوب فيه من المقدسيين وفلسطيني الداخل مواجهة مخاطر التقسيم الزماني الآن والمكاني لاحقاًً، ورفض أي حلول أو مقترحات من شأنها تشريع التقسيم الزماني بالعودة لبرنامج السياحة الأجنبية الذي كان معمولاً به في عام 2000، او أية مقترحات تحمل في ثناياها تنازلات في هذا الإتجاه، فإنه بات مطلوباً من صاحب الوصاية ان يمارس دوره السياسي في منع الإحتلال من تنفيذ مخططاته، وبممارسة ترتقي الى مستوى المسؤولية والخطر الداهم، وهذا يتطلب من الأوقاف الإسلامية والقوى الوطنية والإسلامية أن تعقد لقاءاً مباشراً مع الملك عبد الله الثاني، لكي يجري تدارس الموقف واتخاذ خطوات عملية وجدية تردع العدو عن مواصلة جرائمه وإعتداءاته بحق الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس.
في ظل ما تتعرض له مدينة القدس من حرب شاملة، فلا يحق لأي طرف فلسطيني أن يعلي شأن المصلحة الفئوية أو الحزبية فوق شأن المصلحة الوطنية العامة، فلا قيمة ولا معنى لأي دولة فلسطينية بدون القدس، فالقدس قلب فلسطين، ولذلك في ظل ما تتعرض له من خطر يبلغ ذروته الآن، بات من الملح أن تتداعى كل قوى وشخصيات ومؤسسات القدس وبمختلف منابتها ومشاربها الفكرية والسياسية ومرجعياتها الرسمية والشعبية والدينية، لعقد لقاءات ينبثق عنها خطط وبرامج عمل، فالزمن كالسيف، وهو ينفذ أمام المقدسيين، وأقول أمام المقدسيين، فهم حجر الزاوية في الملاحم والمعارك البطولية التي تخاض دفاعاً عن الأقصى والمقدسات، دفاعاً عن الأرض والعرض، دفاعاً عن البقاء والوجود والصمود والثابت على هذه الأرض.
القدس كانت وستبقى البوصلة والعنوان في كل المحطات الكفاحية والنضالية، وهي مفجرة الإنتفاضات الشعبية، ولعل الجميع يذكر بأن الإنتفاضة الثانية، أيلول 2000 تفجرت على أثر تدنيس المغدور شارون، رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق للمسجد الأقصى، وكذلك الهبات الجماهيرية الواسعة التي إجتاحت فلسطين بطول وعرض مساحتها التاريخية، كانت نتيجة للهبة الجماهيرية غير المسبوقة التي إندلعت على أثر جريمة حرق الفتى أبا خضير حياً، والتي ما زالت مفاعيلها وعواملها قائمة، والتي ستندفع نحو إنتفاضة شعبية غير مسبوقة إذا ما أقدم الإحتلال على المس بالمسجد الأقصى بالتقسيم أو الهدم.
الحملة والحرب على القدس مستمرة، فـ(45) شاباً من منطقة شعفاط على وجه التحديد، ما زالوا يحاكمون في محاكم الإحتلال، تحت حجج وذرائع تخريب وتدمير محطات وبنية القطار التحتية، والمحاكم الإسرائيلية تفرض عليهم غرامات "قراقوشية" من نصف مليون الى مليون شيكل، وصباح هذا الفجر جرى إعتقال حوالي (60) شاباً مقدسياً، وليرتفع عدد الشباب المقدسيين المعتقلين منذ جريمة حرق الفتى أبو خضير إلى صباح اليوم أكثر من أربعمائة معتقل.
لا نريد أن نستمر في مطالبة ومناشدة العرب، أن يدعمونا ويساندونا، فالحرب على غزة كشفت بشكل واضح وجلي أين يقف العرب من قضيتنا وحقوقنا، فجزء منهم لم يخجل بأن يعلن علناً عن اصطفافه إلى جانب العدوان على شعبنا، وجزء يتآمر علينا من تحت الطاولة، وجزء يتفرج، ولنكتشف بأننا محتلون من العرب قبل الإسرائيليين.
القدس كانت وستبقى البوصلة والرافعة لكل نضالات شعبنا.. القدس مهما توحش وتغول الإحتلال بحق بشرها وحجرها وشجرها، فستبقى رمزاً وعنواناً للصمود والتحدي بشبابها وشيوخها ونسائها وأطفالها.
* كاتب ومحلل فلسطيني يقيم في مدينة القدس