من حقنا أن نحتفل بأسر جندي إسرائيلي.. وحماس “الإرهابية” تقتل جنوداً ونتنياهو “الحضاري” يقتل أطفالاً.. وأخشى على دماء الشهداء من “الوسطاء” وهذه هي أسبابي **
من تابع بركان الفرح الذي انفجر في أكثر من مدينة عربية، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، الذي عاد لتوه من تشييع شهدائه إلى جنات الخلد بإذن الله، بعد إعلان السيد “أبو عبيدة” الناطق الرسمي باسم كتائب “القسام” عن أسر جندي إسرائيلي ونشر صورته مذيلة باسمه ورقمه العسكري، يدرك كم هي متعطشة أمتنا للنصر بعد أن ازدحمت صفحات تاريخها الحديث بالهزائم من مختلف الأنواع والأشكال وفي الميادين شتى.
أسر جندي إسرائيلي ربما لا يشكل نصراً كبيراً في نظر “العقلاء” الذين يستخدمون معادلات الأرقام والمقارنات “الواقعية”، على حد تعبيرهم، في تحليلهم لسير العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ولكن الشعوب المقهورة تنظر للأمور من منظار مختلف أكثر وطنية، وأكثر عاطفية، ومن منطلقات مختلفة، فعندما تأتي عملية الأسر هذه في إطار اعتراف بنيامين نتنياهو بمقتل عشرين إسرائيلياً (ارتفع العدد الآن إلى ثلاثين)، وعلامات الهزيمة والانكسار مرسومة على وجهه، وهو المتغطرس، فإن مهرجانات الفرح العفوية هذه تأتي منطقية ومفهومة بالنسبة إلى كل الذين يقفون في خندق المقاومة ونحن منهم.
***
المقاومة الفلسطينية تقتل وتأسر جنوداً، بينما الطائرات الإسرائيلية تقتل أطفالاً، وتدمر بيوتاً فوق رؤوس أهلها المدنيين بعد أن عجزت عن الوصول إلى المقاتلين دفاعاً عن أمة تتعرض كلها لهذا العدوان، وهنا تأتي المقارنة الحقيقية لتبرز الفرق بين مقاومة مؤمنة أخلاقية وبين عدو عنصري وحشي لا مكان للقيم الإنسانية في قاموسه، إذا كان يملك قاموساً آخر غير القتل والدمار.
"إسرائيل" في مأزق، ونتنياهو في أزمة، ولهذا يهرع جون كيري وزير الخارجية الأمريكي وبأوامر من رئيسه باراك أوباما إلى المنطقة من أجل إنقاذ الاثنين، وليس من أجل إنقاذ أطفال قطاع غزة، ولكن أمريكا نفسها تغرق في وحول الشرق الأوسط وتبحث عن منقذ.
أمريكا وكل الأنظمة العربية المتواطئة معها، أعطت نتنياهو أسبوعاً لإنجاز مهمة تركيع قطاع غزة والقضاء على الصواريخ، ونزع سلاح المقاومة وتدمير بناها التحتية والفوقية، وعندما فشل مددوا له لأسبوع آخر، وعندما بدأت الخسائر تتعاظم في صفوف قواته، أرسلوا له من يحمل طوق النجاة عبر البحث عن وقف لإطلاق النار بأسرع وقت ممكن مستغيثاً بحلفائه الخلص وما أكثرهم في قمم السلط.
غزة كانت وستظل مقبرة الإسرائيليين فهي التي قضت على إسحق رابين الذي يوصف بأكبر العقول العسكرية اليهودية (كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حرب عام 1967) وهي التي أذلت أرييل شارون وأرغمته على الانسحاب مهزوماً ومستوطنيه دون شروط، ولا ننسى الثنائي ايهود أولمرت وتسيبي ليفني “بطلي” عدوان “الرصاص المصبوب” عام 2008، والآن جاء دور نتنياهو الذي سيكون أبرز ضحايا هذا العدوان، وأياً كانت الصورة التي ينتهي عليها.
عندما يرقص أهل قطاع غزة وأشقاؤهم في الضفة الغربية ومخيمات لبنان طرباً لأسر جندي إسرائيلي، فإنهم يحتفلون بانتصار الكف على المخرز، وقرب تحرير ألف معتقل يقبعون خلف القضبان في المعتقلات الإسرائيلية إن لم يكن أكثر، وهذا ما لا يفهمه الذين يكرهون المقاومة ويشككون في إنجازاتها من خلال ولعهم بالأرقام والآلات الحاسبة عديمة الإحساس وفاقدة الوطنية.
فرانسوا هولاند رئيس فرنسا الذي دعم العدوان الإسرائيلي بقوة، وأدار ظهره لقيم الحريات الفرنسية عندما منع مظاهرة احتجاج على هذا العدوان وضحاياه الأبرياء في باريس يعلن بأنه لا بد من بذل كل جهد ممكن لإنهاء معاناة سكان غزة على الفور، متى كانت دماء أطفال غزة ومعاناة أهلهم تهمة، ولماذا لم يرسل طائرات الناتو لحمايتهم مثلما فعل سلفه نيكولا ساركوزي المتهم بالفساد ثم أين “رسول المحبة والسلام” برنارد ليفي ولماذا هو صامت؟ ألا يرى أشلاء الأطفال على شاشات التلفزة؟
ما الذي حدث حتى تنقلب المواقف رأساً على عقب؟ ويتحول الصقور إلى دعاة سلام؟ وتصبح أرواح أطفال غزة ودمائهم غالية، تتصاعد الدعوات لوقف إزهاقها بالطائرات الأمريكية الصنع؟
إنه الخوف على "إسرائيل" من ظاهرة المقاومة وانتقال “فيروسها” الطاهر ليس فقط إلى المحيط العربي والشرق أوسطي وإنما إلى أوروبا وأمريكا أيضاً، فهذه المقاومة الشريفة التي توحد العالم الإسلامي، قبل العربي خلفها لا يستطيع أوباما أو هولاند وصمها بالإرهاب مهما حاولوا، وإعلان الحرب عليها بالتالي، لأنها مقاومة مشروعة، بل أكثر شرعية من المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، والأمريكية للاحتلال الإنكليزي.
لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، ولا أبالغ مطلقاً، نعيش العودة القوية لهذه الظاهرة، ونرى رجالاً يرفضون الرد على مكالمات الوسطاء والسماسرة ويستمرون في القتال بشجاعة ورجولة، لأنهم يتطلعون إلى الشهادة، ويتمنونها في أسرع وقت ممكن، ووقف إطلاق النار الذي لا يلبي مطالبهم وشروطهم المشروعة يحرمهم منها، وهذه الروحية لا يفهمها نتنياهو ولا حلفاؤه في واشنطن وباريس ولندن، ولهذا يخطئون الحساب دائماً.
***
نعم خسر أبناء القطاع وخسرنا معهم خمسمائة وخمسين شهيداً، إلى جانب أربعة آلاف جريح وتدمير آلاف البيوت، تشرد مئات الآلاف في العراء، ولكن الرعب الذي يعيشه الإسرائيليون حالياً، وهم يرون جنود جيشهم يتساقطون قتلى وجرحى في معارك الشرف والكرامة على مشارف غزة، يجعل هذه الخسائر متواضعة ومبررة، ومن استمع إلى تلك المرأة التي قدمت سبعة من أبنائها وزوجها شهداء، وهي تقول بأعلى صوتها إنها مع المقاومة ولا ترجى شيئاً من الزعماء العرب، وتترفع عن الاستنجاد بهم وجيوشهم، وأنا أنقل كلامها حرفياً الذي قالته على شاشة إحدى الفضائيات، يدرك أن قيماً جديدة، تنبت وسط ركام بيوت حي الشجاعية البطل شرق مدينة غزة.
نخشى على هذا الصمود الرائع المشرف.. مثلما نخشى على تضحيات الرجال الرجال في قطاع غزة من الوسطاء العرب أكثر من خشيتنا من الوسطاء الأجانب، فدماء الشهداء لا تعني بالنسبة إلى الكثير من هؤلاء غير زيادة رصيدهم عند الكفيل الأمريكي، ولا أقول أكثر من ذلك.