المشكلة بالنسبة إلى نتنياهو وغالانت لن تقتصر على القيود المتعلقة بالحركة والقدرة على السفر خارج البلاد، وإنما تكمن أيضاً في احتمال عزوف عدد كبير من قادة دول العالم أو كبار مسؤوليه على تجنب اللقاء بهما.
بعد تحقيقات استغرق إجراؤها فترة طويلة، توافرت لدى مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية أدلة كافية على تورط كل من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويوآف غالانت، وزير أمنه السابق، في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبناءً على هذه التحقيقات، واستناداً إلى النظام الأساسي لاتفاقية روما، تقدم كريم خان، المدعي العام للمحكمة، بمذكرة في 20 أيار/مايو 2024، يطلب فيها من الدائرة الأولى للمحكمة إصدار أمر باعتقالهما. واستغرقت مداولات هذه الدائرة ستة أشهر كاملة، تعرّض خلالها قضاة المحكمة، والمدعي العام نفسه، لضغوط دولية مكثفة قادتها الحركة الصهيونية بالتعاون مع الولايات المتحدة، غير أن هذه الضغوط لم تحل دون إصدار أوامر التوقيف المطلوبة، وبإجماع الآراء، وذلك في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. ويعني صدور هذا الأمر أن جميع الدول الأطراف في اتفاقية روما، وعددها 123 دولة، أصبحت ملزمة قانوناً بتوقيف كل من بنيامين نتياهو ويوآف غالانت في حال عبور أي منهما لأقاليمها البرية أو البحرية أو الجوية، وتسليمهما على الفور إلى المحكمة الجنائية في لاهاي للشروع في إجراءات محاكمتهما.
أثار صدور مذكرة الاعتقال عاصفة من النقاش. لقد شكك البعض في سلامتها من الناحية القانونية، من منطلق أن الكيان الصهيوني ليس طرفاً في النظام الأساسي لاتفاقية روما، وبالتالي لم يقبل أصلاً اختصاص المحكمة التي نشأت بموجبها، واستناداً أيضاً إلى أن فلسطين ليست "دولة" كاملة العضوية في الأمم المتحدة، على رغم كونها طرفاً في نظام روما الأساسي وقيامها بإيداع أوراق قبول اختصاص المحكمة في أول كانون الثاني/يناير 2015. وقام البعض الآخر بإعلان رفضه الصريح لهذه المذكرة التي لم يتردد في مهاجمتها بعنف، مؤكداً عدم التزامه ما جاء فيها.
ومع ذلك، يمكن القول إن هذه المواقف، والتي يغلب عليها الطابعان السياسي والأيديولوجي، لن تغير شيئاً من القيمة القانونية لهذه المذكرة، ولن تستطيع أن تشكك لا في صلاحية المحكمة التي أصدرتها، ولا في إلزامية ما ورد فيها من أحكام. فالمحكمة الجنائية الدولية هي وحدها المختصة بالنظر في مدى صلاحيتها في التحقيق في الجرائم التي تحال عليها من عدمه، وهي أيضا صاحبة الاختصاص الأصيل بالنظر في مدى صلاحيتها في تعقب ومحاكمة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، وخصوصاً إذا ثبت لها تقاعس القضاء الداخلي، أو تواطؤه.
في أي حال، لقد تابع العالم بنفسه، على الهواء مباشرة، ما تعرض له الشعب الفلسطيني في غزة من جرائم تقشعر لها الأبدان، شملت القتل والتشريد والتجويع والمطاردة والتدمير الكامل لجميع مرافقه الخدمية، الصحية منها والتعليمية وحتى الإغاثية، وهي جرائم أخذت بوضوح تام شكل الإبادة الجماعية الشاملة والتطهير العرقي، بل إن هذه الجرائم أصبحت موثقة بشكل جيد جداً، وخصوصاً بعد قيام حكومة جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الكيان الصهيوني بخرق الالتزامات الواقعة عليه بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وقامت هذه المحكمة بدورها، بعد أن تبيّن لها وجود دلائل على احتمال وقع جرائم إبادة جماعية، بإصدار أوامر تطالب الكيان بضرورة اتخاذ تدابير وقائية لحماية الفلسطينيين ومنع وقوع أعمال إبادة ضدهم، لكن الكيان لم يكترث مطلقا لهذه الأوامر. ولأن مذكرة التوقيف صدرت هذه المرة في حق مسؤولين ينتمون إلى كيان تدعمه الولايات المتحدة الأميركية ومعظم الدول الغربية الكبرى، يصعب الإدعاء أن دوافعها سياسية، ذلك بأن تسييس المؤسسات الدولية، وخصوصاً القضائية منها، في حالة حدوثه، لا يتم عادة إلا لمصلحة الدول الكبرى صاحبة النفوذ الواسع والمؤثر في الساحة الدولية، وهو ما يفسر الترحيب الهائل بمذكرة الاعتقال من جانب الشعوب المستضعَفة في دول الجنوب على وجه التحديد، وأيضاً في الأوساط الليبرالية العالمية.
والواقع أنه ينبغي لنا أن نميز بين الأثرين القانوني والمعنوي لصدور مذكرة التوقيف الشجاعة هذه، وبين قابليتها للتنفيذ الفعلي في أرض الواقع. فمن الصعب تصور أنه يمكن فعلاً توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير أمنه السابق وإلقاء القبض عليهما ومثولهما للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وخصوصاً في ظل أوضاع القوى وموازينها السائدة حالياً في الساحة الدولية، غير أن صدورها يُعَدّ في حد ذاته مسألة بالغة الأهمية، ويجعلها قابلة للاستغلال إلى أقصى حد لمصلحة القضية الفلسطينية، شريطة أن تحسن الدول العربية هذا الاستغلال وأن تتولد لديها إرادة حقيقية لمساندة دعم الشعب الفلسطيني إلى أن يتمكن من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
فلن يكون في مقدور كل من نتنياهو وغالانت، بعد صدور هذه المذكرة، المقامرة بالسفر إلى عدد كبير من دول العالم، خشية رفع دعاوى قضائية عليهما وصدور أحكام تجيز تسليمهما إلى القضاء الدولي بالفعل، ثم سوف تظل وصمة العار تلاحقهما بالفعل، كونهما مجرمي حرب. صحيح أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وفقاً للقواعد القانونية السليمة والمستقرة في العالم المتحضر، لكن بما أن المحكمة هي الجهة الوحيدة التي يمكنها إثبات البراءة من عدمه، فسيظل هروبهما الدائم وعدم مثولهما أمام القضاء بمنزلة إدانة ضمنية لهما، وهو ما سيؤدي إلى تثبيت صورتيهما كمجرمي حرب.
لذا، يبدو لي أن المشكلة بالنسبة إلى نتنياهو وغالانت لن تقتصر على القيود المتعلقة بالحركة والقدرة على السفر خارج البلاد، وإنما تكمن أيضاً في احتمال عزوف عدد كبير من قادة دول العالم أو كبار مسؤوليه على تجنب اللقاء بهما، سواء داخل الكيان أو خارجه، وهو ما قد يؤدي بهما إلى ما يشبه القطيعة ويولد لديهما إحساساً بالعزلة.
على صعيد آخر، من الطبيعي أن يؤدي صدور مذكرة بتوقيف رئيس الوزراء ووزير أمنه السابق، بتهمة التسبب بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالتوازي مع استمرار نظر دعوى قضائية مرفوعة على الكيان من جانب جنوبي أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، إلى تذكير العالم بأن المشكلة الحقيقية لا تكمن في وجود أشخاص متطرفين في مواقع المسؤولية داخل الكيان، وإنما تكمن أساساً في طبيعة المشروع الصهيوني المنشأ لهذا الكيان، كونه مشروعاً استيطانياً إحلالياً لا يتحقق على أرض الواقع إلا بالاستيلاء على أراضي الغير وطرد الشعب الفلسطيني من وطنه.
ولأن المجتمع الدولي، ممثلاً بعصبة الأمم أولاً، ثم بالأمم المتحدة بعد ذلك، أدى دوراً محورياً في تثبيت دعائم هذا المشروع، عبر تبني العصبة لوعد بلفور وإدراجه في صلب اتفاقية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922، ثم عبر إقدام الجمعية العامة للأمم المتحدة على تبني مشروع تقسيم فلسطين التاريخية عام 1947، لذا آن الأوان أن يبدأ المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة حالياً، في تصحيح أخطائه التاريخية، وخصوصاً بعد أن تكشفت أمامه كل الحقائق التي تؤكد أن النظام السياسي للكيان الغاصب لأرض الغير لا يمكن إلا أن يكون عنصرياَ بطبيعته، وهو ما أكدته كل التقارير الصادرة مؤخراً، سواء عن الأمم المتحدة نفسها أو عن المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان.
كلنا يذكر كيف تنبه العالم العربي مبكّراً لعنصرية الأيديولوجيا الصهيونية، حين نجح في أعقاب حرب تشرين الأول/أكتوبر المجيدة، في استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين الصهيونية كونها شكلاً من أشكال العنصرية (القرار 3379 لعام 1975)، لكن الحركة الصهيونية، بتعاون وثيق مع الولايات المتحدة والدول الغربية، نجحت عام 1990 في حمل الجميعة العامة للأمم المتحدة على إلغاء هذا القرار ومحوه كلياً من سجلاتها.
ساعد على ذلك توجه عدد من الدول العربية نحو إبرام معاهدات "سلام" مع الكيان، عبر موجات متلاحقة من التطبيع، بدأت موجته الأولى مع مصر التي قامت بإبرام معاهدة سلام منفردة معه عام 1979، ثم تبعتها موجة ثانية دشنتها منظمة التحرير الفلسطينية، بالتوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 وتبعها الأردن، بالتوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994، إلى أن وصلنا إلى الموجة الثالثة التي انطلقت في إبان ولاية ترامب الأولى (2017-2021)، حين أبرمت الإمارات والبحرين اتفاقيتي أبراهام، وتبعهما المغرب والسودان، ليتوالى انفراط العقد العربي بأكمله.
اليوم، بعد حرب إبادة جماعية شنها الكيان على الشعب الفلسطيني في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، ولا تزال مستمرة حتى الآن، وحرب عدوانية مدمرة شنها على لبنان، وفي ظل دعوى قضائية لا تزال مرفوعة على هذا الكيان حتى الآن أمام محكمة العدل الدولية، وبعد صدور مذكرة توقيف في حق رئيس وزرائه ووزير جيشه من جانب محكمة الجنايات الدولية، يبدو موقف الأنظمة الرسمية العربية بالغ السوء. فعلى رغم كل ما ارتكبه الكيان من جرائم، فإنه لم تجرؤ دولة عربية واحدة من الدول المطبعة مع هذا الكيان على سحب سفيرها من هناك.
ستتوقف الحرب في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، لكن الكيان سيظل قائماً في عنصريته، وربما تزداد شراسته وتعطشه إلى الدماء، فكيف ستتعامل معه الأنظمة العربية مستقبلاً؟ هل ستواصل المسار نفسه الذي سلكته منذ سبعينات القرن الماضي، كأن شيئاً لم يكن، أم أنها ستعود إلى رشدها وتشرع في تغيير سياستها تجاهه. أظن أنه إذا لم تغير هذه الأنظمة سياستها، وتبدأ صياغة رؤية عربية موحدة لمقاومة المشروع الصهيوني، فسوف يتمكن الكيان الصهيوني من فرض هيمنته على المنطقة برمتها في الأجل المنظور.