Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

أفق المعركة وحسابات النصر والهزيمة

فلسطين اليوم

أعطى الهجوم الإسرائيلي على إيران، في حجمه ونوعيته، مؤشراً على توقف الصعود الإسرائيلي السريع للهيمنة على سلم التصعيد منذ اغتيال إسرائيل القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران. انفتحت شهية إسرائيل على التصعيد، مُحاوِلةً استعادة هيبة الردع، وتكبيد أعدائها خسائر فادحة، بل والإطاحة بهم إن استطاعت، وهو ما ترجمته عبر تفجيرات البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي، ثم اغتيالات قادة حزب الله في بيروت خلال شهر أيلول. كانت هذه ذروة الإنجازات الإسرائيلية في معركة «طوفان الأقصى»، وقد خلقت نشوةً دفعت عدداً من الكتّاب الأميركيين والإسرائيليين والعرب التابعين إلى المطالبة بالذهاب نحو استثمار اللحظة وقطع رأس النظام في طهران.

ما زالت الإستراتيجية الأميركية في إدارة الحرب تقوم على عدم التورّط المباشر في حرب إقليمية واسعة، مع الحفاظ على أكبر قدر من حرية الحركة للإسرائيليين لاستعادة الردع المتضرر في السابع من أكتوبر، وصولاً إلى تجديد الهيمنة الأميركية على المنطقة وتثبيت تحالف إقليمي يكون حارساً لها. كانت الرهانات من جبهات المقاومة على لجم الأميركيين للصهاينة تقديراً في غير محله، حصل به اطمئنان إلى عدم ذهاب إسرائيل نحو حرب واسعة، خاصة في الجبهة اللبنانية، لكن الأميركيين كانوا يفكرون بشكل مختلف: لا للتورط المباشر بما يهدد قواتنا ومصالحنا، لكن لا بأس من الذهاب مع نتنياهو لاختبار الخطوط الحمر، والمغامرة بخرقها وانتظار النتيجة، والانتقال لمزيد من تكسير الخطوط الحمر طالما توحي النتيجة بأن كلفة التصعيد محتملة، مع القيام بما يلزم من عمليات تضليل ديبلوماسية عبر الإيحاء بوجود جهود لوقف إطلاق النار قبل وبعد كل تصعيد.
ما حدث خلال شهر أكتوبر بالذات على الجبهة اللبنانية، من تزايد أعداد الصواريخ والمسيرات إلى التصدي للمحاولات الإسرائيلية للتسلل إلى قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان، بدأ يُذهب سكرة المنجزات الإسرائيلية. بدت المعركة أكثر صعوبة مما ظن الإسرائيليون بعد إنجازاتهم بالاغتيالات، كما أن جبهة غزة لا زالت قادرة على تكبيدهم خسائر في شمال القطاع رغم الحملة الشرسة لتهجير المدنيين في جباليا. الأميركيون، مع الأخذ في الحسبان هذه المعطيات، ما زالوا يفضّلون ألّا تقاتل إسرائيل على جبهتين بالحدّة نفسها، وهكذا سمحت برفع مستوى حدّة القتال على الجبهة اللبنانية بحساب أن القتال في غزة بات منخفض الشدّة (وقد لا يكون حساباً دقيقاً). والحالة هذه، أصرّت واشنطن (البنتاغون بالذات) على وضع سقف للرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانية في الأول من أكتوبر، لا تقود إلى مواجهة مرتفعة الحدة مع إيران في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل حربها في جنوب لبنان، ولا تؤدي إلى تداعيات تتضرر منها الولايات المتحدة أو قواتها في المنطقة بشكل مباشر.
نجحت الولايات المتحدة بردع جبهات المقاومة عن العمل بالحدّة نفسها بشكل متزامن عبر رمي ثقلها الردعي لتقوية الموقف الإسرائيلي في الإقليم، واستعاضت جبهات المقاومة في هذه الحالة بإستراتيجية استنزاف إسرائيل على مدى زمني طويل. ظلت إسرائيل قادرة على تحمّل أثمان لم تتحمّلها من قبل، وما زال الإجماع على حربي لبنان وغزة قائماً داخل النخبة السياسية رغم الخسائر المادية والبشرية، وضغط الصواريخ والمسيرات على الجبهة الداخلية، لكن الاستنزاف الحاصل يباعد بين موقفي الجيش والقيادة السياسية أكثر، خاصة في ظل عدم اقتناع الجيش بإمكانية تحقيق «نصر مطلق»، أو الوصول إلى أهداف الحرب ذات السقف المرتفع التي وضعتها حكومة نتنياهو.
في هذه اللحظة تتضح أهداف أطراف المعركة بشكل كبير. أميركا تهدف لإضعاف إيران وحلفائها، والقضاء عليهم إن أمكن، وهي تستبعد ضربات ضخمة للنظام في طهران في الوقت الحالي، لكن هذا تكتيك مرحلي لا يتناقض مع إستراتيجية إضعاف النظام والإطاحة به. إسرائيل تريد استعادة هيبة الردع وهزيمة أعدائها، وتأمين حدودها بإزالة الأخطار الإستراتيجية في غزة والضفة الغربية ولبنان، بنهاية تهديد حماس من غزة وقوات الرضوان وصواريخ حزب الله في الجبهة الشمالية، وستدور المبادرات السياسية حول قوات دولية أو حكمٍ يضمن تأمين إسرائيل من غزة ولبنان.
بالنسبة إلى جبهات المقاومة، يعني القبول بالاشتراطات الصهيونية بوجود قوات إسرائيلية داخل غزة وعند معبر رفح، أو حرية الحركة داخل لبنان مع تعديلات على القرار 1701 يسمح بحصار حزب الله، هزيمة وتراجعاً واضحين. في المقابل، إدخال إسرائيل في استنزاف، وتحمّل كلفة الحرب وعدم الاستسلام، ورفض تغيير أوضاع ما قبل الحرب بما يتناسب مع المطالب الأمنية الإسرائيلية، قد تسمح بتحقيق هزيمة إستراتيجية لإسرائيل لها تداعيات كبيرة في المنطقة.
أمّا الرد الإيراني، فيمكن أن يكون أوسع من رد موضعي على ضربة موضعية، إذ قد يدفع الواقع القائم في المنطقة، وفهم الإيرانيين لطبيعة استهدافهم أميركياً، إلى مراجعة إيرانية للسياسة النووية الخاصة بهم، تفضي إلى امتلاك السلاح النووي لتعزيز الردع.
* كاتب عربي