يرى كثيرون، وخصوصاً من الإسرائيليين، أن هناك جملة من المعيقات والمصاعب التي تقف في وجه عودة الاستيطان إلى قطاع غزة وتكاد تجعله أمراً مستحيلاً.
أعادت عملية الاحتلال المتواصلة في شمال قطاع غزة، والتي مضى عليها أكثر من ثلاثة أسابيع، تسليط الأضواء مجدّداً على مشروع إعادة المستعمرات الإسرائيلية من جديد إلى أراضي القطاع، إذ إن هذه العملية نتج منها سقوط نحو ألف شهيد حتى الآن، حسب تقديرات وزارة الصحة في قطاع غزة، إلى جانب الدمار الهائل في المناطق العمرانية، لا سيّما تلك الموجودة في المناطق الغربية والشرقية من مخيم جباليا، أكبر مخيمات القطاع وأكثرها سكّاناً، بالإضافة إلى عمليات التهجير القسري غير المسبوقة للمواطنين، والتي تشير بعض الإحصائيات غير الرسمية إلى اضطرار أكثر من سبعين ألفاً منهم للخروج من مناطق سكناهم في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون باتجاه مدينة غزة تحت وطأة القصف الشديد، والقتل على مدار اللحظة، وتدمير آبار المياه الجوفية، ومحطات التحلية محدودة العدد، وتوقف المنظومة الصحيّة وانهيارها بشكل شبه كامل بفعل محاصرة المستشفيات، واقتحامها، واعتقال العشرات من الكوادر الطبية التي كانت تقدم الخدمات الطبية لعشرات آلاف من السكان هناك.
كل ما سبق وغيره الكثير من الإجراءات التي ينفذها العدو الصهيوني دقّ ناقوس الخطر مجدداً حول رغبة هذا الكيان في تحويل أحلام اليمين المتطرّف في عودة الاستيطان إلى قطاع غزة إلى حقيقة، وباتت التصريحات التي تشير إلى هذه الرغبة تنتشر في كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية، ولم تعد حبيسة الغرف المغلقة أو الاجتماعات السرية والخاصة، وهي كما يبدو تمضي على قدم وساق في ظل عجز عربي وإسلامي فاضح ومخز، وتواطؤ وتعاون من عديد من دول العالم لا تخطئه عين، على الرغم من بعض الانتقادات الخجولة التي لا قيمة لها.
وفي حقيقة الأمر، فإنه بإمكاننا النظر إلى مخططات إعادة الاستيطان إلى قطاع غزة، وإلى منطقته الشمالية تحديداً من زاويتين، أولاهما أنه يهدف إلى فرض أمر واقع جديد يصبّ في خانة تشكيل مزيد من الضغط على المقاومة الفلسطينية لتقديم تنازلات في أي مفاوضات جدّية للوصول إلى وقف لإطلاق النار، وهذا الأمر يشبه إلى حدٍّ بعيد ما جرى من اقتطاع عشرات الكيلومترات من أراضي القطاع، سواء من خلال محور "نتساريم" وسط القطاع، والذي تجاوزت المساحة التي اقتطعها حتى الآن الـ 42 كلم2، إذ تمدّد بشكل طولي من الشمال باتجاه الجنوب ليصل إلى سبعة كيلومترات ونصف بعد أن كان كيلومترين اثنين فقط، بالإضافة إلى محور فيلادلفيا على الحدود المصرية-الفلسطينية والذي اقتطع بدوره حتى الآن أيضاً نحو 28 كلم2،ي ُضاف إلى كل ذلك المنطقة العازلة المقامة على طول الحدود الشمالية والشرقية من القطاع، والتي يبلغ عمقها من كيلومتر واحد إلى ثلاثة كيلومترات في بعض المناطق، بما يعني أنها تقتطع بالحد الأدنى نحو 120 كلم2 أخرى.
الزاوية الثانية التي يمكن النظر من خلالها إلى ما يجري في شمال القطاع، هي أنها بالفعل محاولة جادة من جانب "دولة" العدو لعودة المستوطنين إلى القطاع بعد اندحارهم منه قبل عشرين سنة تقريباً، حيث تم حينها تفكيك المستوطنات الواحدة والعشرين التي كانت تنتشر كالسرطان في مناطق القطاع المختلفة، وتستحوذ على مقدراته من المياه الجوفية العذبة، والأراضي الصالحة للزراعة، والتي كانت تدر على "الدولة" العبرية ملايين الدولارات كل عام، حيث بات هذا الأمر حلماً يراود أحزاب اليمين المتطرفة منذ ذلك الخروج المهين، والذي تم بفعل ضربات المقاومة التي حوّلت حياتهم في تلك السنوات إلى جحيم، وخصوصاً بعد أن امتلكت المقاومة حينها بعض الإمكانيات التي لم تكن متوفرة لها من قبل، وتحديداً قذائف الهاون والصواريخ قصيرة المدى والتي، على الرغم من بدائيتها، فإنها استطاعت أن تفرض معادلة جديدة ساهمت مع مرور الأيام في اتخاذ قرار الخروج من جانب واحد.
في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن هذا الحلم لم يعد مقتصراً على أحزاب اليمين فقط، وخصوصاً حزبي "عظمة يهودية "بزعامة بن غفير، و"تحالف الصهيونية الدينية" بزعامة وزير المالية الحالي بتسلئيل سموتريتش، بل وصلت عدواه إلى داخل حزب "الليكود"، الذي دعا كثير من قياداته إلى البدء في التجهّز للعودة إلى "غوش قطيف "حسب زعمهم، وهو ما عبّرت عنه وزيرة الاستيطان في حكومة نتنياهو أوريت ستروك التي قالت:" على الرغم من أن العودة إلى القطاع ستتضمن تضحيات كثيرة، فإنه من دون أدنى شك، غزة في نهاية المطاف جزء من أرض إسرائيل، وسيأتي اليوم الذي نعود فيه إليها".
بالإضافة إلى تصريح ستروك السابق، نُظّم في كانون الثاني/يناير الماضي مؤتمر "النصر والعودة إلى غزة"، والذي نادى بـما سمّاه تصحيح الظلم التاريخي، ومحو العار، واستعادة جزء من أرض الميعاد، حسب وصف المشاركين فيه ومن بينهم 12 وزيراً، وأكثر من 14عضو كنيست، كان من بينهم بن غفير وسموتريتش ومائير داغان، والذين لم يتركوا عبارة تحريضية ضد الفلسطينيين إلا واستخدموها، ودعوا بشكل واضح إلى ضرورة عودة الاستيطان إلى أراضي القطاع بعد تهجير سكّانه، مدّعين أن تنفيذ سياسة "الترانسفير " هي وحدها من سيجلب "السلام ".
في هذا المؤتمر تحديداً عُرض مخطّط يشير بوضوح إلى أماكن بعض البؤر الاستيطانية التي يُراد إقامتها في قطاع غزة، حملت إحداها اسم "يشي"، وهي حسب المخطط ستقام بدلاً من مدينة بيت حانون شمال شرق القطاع، وهي المدينة التي تم تدميرها عن بكرة أبيها منذ الشهور الأولى للعدوان، وتم تهجير أهلها قسراً خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، حتى أولئك الذين يقيمون في مراكز الإيواء، وفي بعض الخيام التي أقاموها فوق ركام منازلهم المدمرة، بالإضافة إلى بؤر أخرى في خان يونس ورفح، وهو ما يعني أن المخطّطات الإسرائيلية لا تقتصر فقط على مناطق شمال القطاع، والتي تبلغ نحو 62 كلم2 تقريباً، وتشكّل نحو 17% من إجمالي مساحته، وإنما تمتد لتشمل كل جغرافيا قطاع غزة من شماله حتى أقصى جنوبه.
في مقابل كل هذه المشاريع التي بدأت تظهر إلى العلن بشكل أوضح، تبدو الوقائع على الأرض أصعب بكثير مما يتوقّع غلاة المستوطنين الصهاينة، والذين في معظم الأوقات يميلون إلى أفكارهم التلمودية البائدة على حساب الحقائق والمسلّمات التي يجب عدم تجاهلها، أو إشاحة النظر عنها، إذ إن نجاح مشاريع كهذه عفا عليها الزمن بحاجة إلى نضوج الكثير من التطورات التي لا يرى الكثيرون أنها متوفرة حتى الآن، وأن ما حدث من تغيّرات خلال السنوات التي تلت الاندحار من القطاع في العام 2005 لا يسمح بعودة الأمور إلى ما كانت عليه في أي حال من الأحوال، وأن جملة التحدّيات التي تحيط بمشاريع عودة الاستيطان، والمخاطر الجمّة التي يمكن أن ترافقها أكبر من أن يتم تذليلها من خلال عملية عسكرية كتلك التي تجرى حالياً في شمال القطاع، أو حتى في حال تمت السيطرة بشكل كامل على كل مساحة قطاع غزة وإقامة حكم عسكري فيه.
في هذا الإطار تحديداً، كتب المدير العام لجمعية "درخينو" نمرود دويك مقالاً في صحيفة "معاريف" بعنوان "العودة إلى غوش قطيف تعني ثقلاً دموياً على الحلم الصهيوني"، أشار فيه إلى أن توظيف الحرب على القطاع لإعادة عملية الاستيطان يعني استمرار سفك الدماء، وأن "إسرائيل" خرجت إلى الحرب لإعادة المحتجزين، وضمان الأمن لسكان الجنوب والنقب الغربي وغلاف غزة وليس لبناء المستوطنات داخل أراضي القطاع، وأن عودة استيطان قطاع غزة ستتطلب من الأغلبية الإسرائيلية "المعتدلة" دفع ثمن باهظ من الدماء، وستتطلب من الجيش التعامل مع أمن المستوطنات في قلب السكان الفلسطينيين المعادين للرؤية الصهيونية، وستزيد من صعوبة ضمان وجود "دولة" إسرائيلية ذات أغلبية يهودية.
من جانب آخر، يرى الكثيرون، وخصوصاً من الإسرائيليين، أن هناك جملة من المعيقات والمصاعب التي تقف في وجه عودة الاستيطان إلى قطاع غزة وتكاد تجعله أمراً مستحيلاً، من بينها صغر مساحة القطاع والتي لا تتجاوز الـ 362 كلم2، يوجد فيها أكثر من مليونين وربع المليون من السكان، وهو ما يجعل إقامة مستوطنات كبيرة نسبياً كما كانت الحال قبل الاندحار أمراً بالغ التعقيد، إذ إنه بحاجة إلى تهجير أكثر من نصف الفلسطينيين القاطنين في القطاع، وهذا الأمر لن يكون سهلاً في أي حال من الأحوال للكثير من الأسباب التي يعرفها الجميع، هذا بالإضافة إلى ضرورة إنشاء مواقع عسكرية لحماية التجمعات الاستيطانية الجديدة، وهو ما يلقي أعباء إضافية على قوات "الجيش" الذي يعاني أصلاً من مشكلات عديدة تتعلق بنقص واضح في القدرات البشرية، بالإضافة إلى التحديات التي يواجهها على مستوى المنطقة والإقليم.
أحد المعيقات الأخرى هو الحالة التي باتت عليها المقاومة الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، إذ أصبح بإمكانها تشكيل تهديد حقيقي على كل سكّان "الدولة" العبرية التي تبعد بعض مدنها عن أراضي القطاع مسافة لا تقل عن 250كلم، وهي أي هذه المقاومة، وإن كانت تلقت ضربات قاسية خلال الحرب على القطاع منذ أكثر من عام، فإنها تستطيع التعافي بسرعة هائلة كما يحدث الآن في كل المناطق التي تضطر قوات الاحتلال للانسحاب منها بعد أن تعيث فيها خراباً ودماراً. وبناءً عليه، وقياساً على التجربة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية وهي في أضعف حالاتها قبل نحو عشرين عاماً، والتي أجبرت الكيان الصهيوني آنذاك على الرحيل مرغماً من أراضي القطاع، وعلى تفكيك مستعمراته التي أنفق على إنشائها ملايين الدولارات، قادرة بكل تأكيد على تحويل حياة أي مستوطن قد يفكر في العودة إلى القطاع إلى جحيم لا يُطاق، وهذا الأمر يعرفه جيداً مستوطنو غلاف غزة، والذين يرفضون العودة إلى مستعمراتهم حتى الآن، على الرغم من التطمينات التي يطلقها نتنياهو ووزير حربه، والتي يعرف الجميع أنها مجرد أكاذيب لا أساس لها من الصحة.
معيق ثالث هو الموقف الدولي والإقليمي من موضوع إعادة الاستيطان من جهة، وتهجير الفلسطينيين من جهة أخرى، وهذا الموقف، وإن كان ضعيفاً ولا يلبي طموحات الفلسطينيين الذين عانوا طوال العام الفائت من الخذلان والتقصير غير المسبوقين، فإنه ونتيجة حرص الكثير من الدول في المنطقة والعالم على مصالحها بدرجة أولى قد يشكّل عائقاً مهماً في وجه المخططات الإسرائيلية،إذ إن العالم ليس بحاجة إلى موجة نازحين جديدة قد تزيد من مفاقمة الأزمات الناتجة عن تدفقهم من دول عديدة وكثيرة، بالإضافة إلى تخوّف واضح لا سيّما من دول الجوار، وتحديداً مصر والأردن، من تأثير هذا التهجير على أمنها القومي.
على كل حال، فإنه لا يمكن اعتبار كل ما يخطط له العدو قدراً واجب النفاذ، ولا يمكن النظر إلى ما يحيكه من مؤامرات تستهدف شعبنا الفلسطيني وشعوب المنطقة كافة بأنه واقع لا فِكاك منه، إذ إن هذه "الدولة" التي فقدت قدرتها على الردع، وتعرضت لانتكاسة هائلة في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي كادت أن تُسقطها أرضاً لولا تدخّل حلفائها من كل أرجاء المعمورة، لم يعد بإمكانها فرض شروطها على أحد، رغم ما تمتلك من قوة، وما يُقدّم لها من دعم، فهي وبعد أن باتت منبوذة من معظم شعوب ودول العالم، وتم تصنيفها بأنها دولة مارقة ارتكبت جرائم إبادة جماعية بحق المدنيين العزل، أصبحت كالبيت الخرب الذي لا يقي أهله حراً ولا زمهريراً، وهي تعاني صراعاً وجودياً ليس على بقائها كنظام سياسي فحسب، بل صراع حياة أو موت يقترب من أن يكتب شهادة وفاتها وخروجها من المنطقة إلى غير رجعة.
قد يقول البعض إن الواقع لا يشير إلى اقتراب ذلك، وأن ما تقوم به هذه "الدولة" المارقة من جرائم في غزة ولبنان واليمن وسوريا يؤشر إلى أنها في كامل قوتها، لا سيّما مع وقوف كل محور الشر إلى جوارها، وأنها تقترب من تحقيق حلمها التاريخي بإقامة "إسرائيل " الكبرى من النيل إلى الفرات، قد يبدو هذا الأمر من وجهة نظر المنبطحين والمهزومين صحيحاً، ولكنه من وجهة نظر أصحاب الحق مجرد أضغاث أحلام، سرعان ما تنقشع وتنجلي كغمامة صيف زائلة،حينها يسقط الباطل ويعلو الحق، هذا الحق الذي يملك رجالاً إذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا أوفوا، وإذا أقسموا برّوا.