في العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان، والذي بدأ بقصف جوي واسع سقط نتيجته مئات الشهداء من المدنيين الأبرياء، بالإضافة إلى جرح آلاف آخرين، وتدمير واسع في البنى التحتية والخدمية ذات الطبيعة المدنية، لجأ العدو الذي يملك إمكانيات تكنولوجية واستخبارية هائلة، مدعوماً بكل ما في جعبة حلفائه الغربيين وفي المقدمة منهم أميركا وبريطانيا، إلى إحداث حالة من الصدمة لدى جموع الشعب اللبناني عموما، ولدى بيئة حزب الله خصوصاً، هذه الصدمة التي أراد من خلالها إفقاد هذه البيئة ثقتها في نفسها وفي قيادتها، وإقناعها بأن مصيرهم كشعب وكحاضنة للمقاومة موجود في يد القيادة المجرمة لـ"الدولة" العبرية، وليس في يد قيادتهم التي وثقوا بها خلال عشرات السنين التي خلت.
ومن أجل ترسيخ هذه القناعة، قام العدو بحملة اغتيالات غير مسبوقة لمعظم قيادات الصف الأول في حزب الله، متوّجاً ذلك باغتيال الأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله، الذي من دون أدنى شك، شكّل اغتياله صدمة هائلة لكل أنصاره ومحبّيه، سواء في داخل لبنان أو في أنحاء مختلفة من الإقليم والعالم.
بعد هذه السلسلة القاسية من الاغتيالات الصاخبة، مارس العدو وماكينته الإعلامية والقنوات الحليفة والمتعاونة معه ضغطاً نفسياً مرعباً على كل أنصار محور المقاومة في عموم المنطقة وليس فقط في لبنان، ولوحظ أن هذه الحملات التي أُنفق عليها، كما تقول بعض المصادر، مليارات الدولارات قد أتت بعض أُكلها، لا سيُما مع تشكيل ما يشبه طوقاً معلوماتياً مضللاً انتشر بشكل غير مسبوق في وسائل التواصل الاجتماعي، والصحف الكبرى، والمحطات التلفزيونية الأكثر مشاهدة، ومنها لشديد الأسف، قنوات عربية تحظى بنسب مشاهدة عالية.
إلا أنه، وعلى الرغم من كل ذلك، ظلّت المقاومة في لبنان والمنطقة وبيئتها الحاضنة ثابتة، لا تزعزعها أراجيف المبطلين، ولا تكسر معنوياتها أكاذيب المحبطين، مؤمنة بأن وعد الله نافذ لا محالة، وأن لا مستقبل لهذا الهجوم الدموي المجرم، وأن ما وعدها به سيد شهداء طريق القدس، ووعدها الصادق والحازم سيتحقّق لا محالة، مهما ارتفعت التكلفة، ومهما بلغت التضحيات.
في إطلالته الأخيرة، أطلق الأمين العام الشهيد تهديداً واضحاً لـ"دولة" العدو، محذراً إيّاها من التمادي في ارتكاب المزيد من الجرائم التي يندى لها الجبين، والتي تخالف كل القيم والمواثيق الإنسانية، حيث قال حينها:" الخبر ما ترون لا ما تسمعون ".
بالأمس، وبعد الهجوم النوعي والمركّب الذي نفّذته المقاومة الإسلامية في لبنان، مستهدفة من خلاله قاعدة تدريب لواء "غولاني" في قاعدة "بنيامينا" جنوب حيفا، عرف كل العالم سر هذه العبارة التي شكّك فيها الكثيرون، وظهر للجميع، العدو منهم قبل الصديق، أنها لم تكن مجرد تهديد أجوف كتلك العبارات التي نسمعها من زعماء أكل عليهم الدهر وشرب، بل هي حقيقة ناصعة، مبنيّة على يقين ثابت، وإيمان راسخ، وإمكانيات وقدرات نوعية، يمكن لها أن تغيّر الكثير من المعادلات، وأن تفرض الكثير من التحوّلات.
يمكن لنا ونحن نكتب بعيد ساعات قليلة من هذا الهجوم الذي وصفته الصحافة العبرية بالدموي والصاعق أن نشير إلى عدّة ملاحظات ربما تساعدنا في فهم ما حدث، وربما أيضاً وهو الأهم أن تضعنا أمام خريطة طريق لمجمل الأحداث التي يمكن أن تقع خلال المرحلة القادمة من تاريخ المواجهة المحتدمة، لا سيّما أنها تمر بمرحلة حاسمة قد تبدو كعنق الزجاجة، وقد تشكّل تطوراً دراماتيكياً أشرنا إليه في مقالات سابقة يمكن أن تنتج منه تطورات حاسمة لناحية وقف العدوان، والتوصل إلى صفقة شاملة في المنطقة، وإن كان البعض يرى أن الوقت ما زال مبكّراً للحديث عن ذلك.
أولى هذه الملاحظات أن ما جرى يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله ما زالت بخير، وأنها تعمل بكامل قدرتها وعلى المستويات كافة، وأن ما تعرّضت له هذه المنظومة من ضربات نوعية خلال الفترة الماضية، خصوصاً عمليات الاغتيال للقادة لم يؤدِّ إلى انهيارها أو تفكّكها كما كان يرغب العدو، وأن "القيادة البديلة " كانت جاهزة لتولّي زمام الأمور في هذه المرحلة بالغة التعقيد، وأن هذه القيادة التي تملك خبرة طويلة لا تقل عن سابقتها قد تجاوزت الصدمة التي أحدثتها عمليات الاغتيال، بل وعادت عجلة العمل الميداني والسياسي والإعلامي والاجتماعي لتعمل من جديد، كما كان الوضع في المرحلة السابقة.
ثاني الملاحظات أن حزب الله اختار أن يرد على ارتفاع وتيرة العدوان على الشعب اللبناني بشكل مختلف هذه المرة، وهو ما أشار إليه في بيانه حول العملية بأنها عملية "تأديب" للعدو المجرم، وردعه عن مواصلة جرائمه بحق المدنيين العزل، والتي يحاول من خلالها إحداث خرق في العلاقة بين المقاومة وجمهورها، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تراجعها، واستسلامها، وقبولها بما يمليه عليها محور الشر الذي استعجل قطف ثمار عملياته العدوانية، لا سيّما على صعيد الوضع اللبناني الداخلي، والذي شهد حراكاً محموماً خلال الأيام الأخيرة من جماعات وأحزاب عُرفت طوال تاريخها بالتبعية لدول العدوان، وبجرائمها ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني وفي المقدّمة منها مذبحة صبرا وشاتيلا.
ملاحظة ثالثة وهي متعلقة بالجانب العسكري لهذه العملية وهي تشمل ثلاث نقاط نشير إليها باختصار:
الأولى تدل على قدرة استخبارية ومعلوماتية كبيرة جداً لدى حزب الله، ولدى باقي أطراف محور المقاومة وخصوصاً إيران، إذ إن عملية نوعية كهذه تستهدف مكاناً حسّاساً للغاية على بعد نحو65 كلم من الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مع لبنان، وفي هذا التوقيت بالذات، حيث يتجمّع هذا العدد الكبير من جنود العدو وضبّاطه في صالة واحدة لتناول الطعام، يحتاج من ناحية إلى معلومات استخبارية دقيقة ومسبقة، وهو الأمر الذي لا يمكن له أن يأتي من فراغ، بل هو نتاج عمل متواصل ومستمر في جمع المعلومات، ومن ناحية أخرى، فإن إطلاق الهجوم في هذا التوقيت الحاسم يحتاج أيضاً إلى توافر معلومات آنية ولحظية عن بدء التجمّع، وهو الأمر الذي يمكن أن يتم من خلال مراقبة هواتف الجنود، أو وجود مراقبة بشرية عن قرب، أو من خلال معلومات توفرها أقمار اصطناعية لدول محور المقاومة.
النقطة الثانية تتعلّق بعملية الخداع والتمويه التي قام بها الحزب ليس في يوم العملية فقط، أو في أثناء تنفيذها، بل قبل ذلك بأيام وأسابيع طويلة، إذ إنه لم يُشر في أي من إصداراته السابقة والتي قام بعرضها عبر وسائل الإعلام إلى هذه القاعدة السرّية، والتي لا يعرف بوجودها معظم الإسرائيليين، وهو في ذلك قام بعملية خداع تكتيكي منقطع النظير، نجح من خلاله في إصابة "جيش" الاحتلال وأجهزة استخباراته في حالة من العمى المعلوماتي في ما يخص هذه القاعدة تحديداً، وربما في المستقبل نرى هذا الأمر يتكرر في مناطق أخرى كان العدو يعتقد أنها آمنة، وأنها في منأى عن عمليات المقاومة.
أما النقطة الثالثة فهي خاصة بالمستوى العملاني للهجوم النوعي والقاتل، إذ إن ما قام به حزب الله من عمليات تضليل لمنظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية بمستوياتها الثلاثة قد شكّل مفاجأة مدوّية لـ"جيش" الاحتلال،حيث قام- كما تقول المصادر الإسرائيلية- بإطلاق دفعات من الصواريخ على أكثر من هدف في وقت واحد، وهو الأمر الذي لفت نظر كل منظومات الصواريخ الاعتراضية الموجودة بالقرب من محيط القاعدة، وتلك الموجودة في كامل منطقة جنوب حيفا، وصولاً إلى مدينة الخضيرة، والتي اعتقدت للوهلة الأولى أنها تتعامل مع هجوم صاروخي واسع يستهدف خليج حيفا بالتحديد، كما جرت العادة خلال الأيام الأخيرة، إلا أن ما جرى لاحقاً من وصول المسيّرات الانقضاضية إلى قلب قاعدة "بنيامينا" الحيوية والسرّية قد كشف عن حجم التضليل الذي تعرض له العدو، لا سيّما إذا ما عرفنا أن لدى العدو منظومات اعتراض تُعدّ من الأكفأ على مستوى العالم، وبإمكانها رصد العشرات من الأهداف الجوية المعادية في وقت واحد، لكن هذا كله لم يكن كافياً لاكتشاف أو اعتراض بعض المسيّرات التي ادّعى العدو خلال الأسابيع الماضية، وحتى خلال شهور طويلة من عمل جبهة الإسناد اللبنانية بأنه حيّدها بشكل كبير، وأنه وجّه لها ضربة قاصمة باغتيال المسؤول الأول عنها.
على كل حال، وحتى لا نطيل، وفي انتظار المزيد من المعلومات التي ستتكشّف لاحقاً عن حجم هذه العملية المفاجئة وتداعياتها، يمكن لنا أن نعتقد أن ما جرى هو بداية تحوّل كبير على مستوى المعركة التي تجري الآن في المنطقة وليس في لبنان وفلسطين فقط، إذ إن محور المقاومة في الإقليم وفي المقدمة منه حزب الله قد بدأ في التكشير عن أنيابه بعد أن تحمّل كثيراً، وبعد أن وضع كل العالم أمام مسؤولياته لوقف العدوان، ومنع تمدّد الحرب، وربما دخلنا الآن في مرحلة "كسر العظم" التي كان الإسرائيلي يخشاها على الدوام، وهي المرحلة التي ستتضاعف فيه كلفة عدوانه إلى درجة لم يكن يتوقّعها، وهي بالتأكيد ستزيد من خسائره البشرية والاقتصادية التي يفرض عليها رقابة صارمة حتى لا يكتشف العالم حجم إخفاقاته، وحتى لا ينقلب الرأي العام في "الدولة" العبرية على نتنياهو وزمرته المجرمة.
ختاماً نقول إن بإمكان سيد شهداء طريق القدس، وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى في لبنان وفلسطين أن يطمئنوا، فقد آن لهذا العدو المجرم أن يدفع الثمن من جراء ما ارتكبت يداه من فظائع، وأن يذوق هو وجنوده ومستوطنوه جزءاً من بأس المجاهدين، وأن يستعد لمرحلة قادمة قد يبدو فيها كل ما حدث سابقاً بأنه مجرد مزاح، فقد حان وقت الجد، وبانت لحظة الحقيقة، وعلى الباغي ستدور الدوائر إن شاء الله.
*كاتب في الشأن السياسي والعسكري