Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

حرب أمريكا الشاملة

فلسطين اليوم

يتكرر المشهد نفسه منذ عام: يقرر نتنياهو اتخاذ خطوة تصعيدية، قد تكون من النوع الذي تحذر منه أميركا علناً، ويفعل، فيقوم الأميركيون بنفي علمهم بالأمر، ونفي انخراطهم فيه، ثم يؤكدون دعمهم لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، ويحذرون أعداءها من الرد بتصعيد مقابل، وقد تظهر تسريبات إعلامية عن غضب إدارة بايدن من نتنياهو وتصرفاته الهوجاء، يرافقها زيادة في حجم المساعدات الأميركية لإسرائيل، وزيارات لمسؤولين أميركيين إلى الأراضي المحتلة لتنسيق الخطوة القادمة. رأينا هذا في رفح ولبنان، وفي تنفيذ اغتيالات في ضاحية بيروت الجنوبية وطهران، بما يُظهِرُ الأميركيين غير قادرين على السيطرة على نزق نتنياهو، فيما هم رعاة كل تصعيد إسرائيلي.

روايات كالتي يتم ترويجها إعلامياً، من نوع عدم علم الأميركيين بخطوات تصعيدية إسرائيلية، أو تلاعب نتنياهو بالإدارة الأميركية، بإيحائه أنه مع صفقة لوقف النار في غزة، أو مع هدنة في لبنان، ثم تنفيذ اغتيالات أو مجازر لا تقبل بها الإدارة، لم تعد ذات أهمية، لأن تصديقها أو تكذيبها لا يغير من النتيجة المتمثلة بدعم الإدارة الأميركية لإسرائيل مهما فعلت. لو كانت أميركا منزعجة حقاً من التصعيد، لاتخذت خطوات مغايرة مع إسرائيل، لكنها في الحقيقة تدفع إسرائيل إلى التصعيد بدعمها غير المحدود، وتراهن على أن تحقق إسرائيل النتيجة المطلوبة في حرب أميركا لتثبيت هيمنتها في العالم.

أرادت إدارة بايدن التركيز على مواجهة الصين، وبدا أنها انشغلت بمعركة كبيرة في منطقتنا، كما في أوكرانيا، لكن هذه المعارك ليست خارج سياق مجابهة الصين. إن تحجيم روسيا وإيران وإضعافهما يزيدان من القدرة الأميركية على حصار الصين، وإحكام السيطرة على شرق أوروبا وغرب آسيا، واستنفار الحلفاء في المنطقتين، ويقطعان الطريق على الطموحات الصينية، وخاصة الاقتصادية منها. لنتذكر مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر المنطقة العربية وإسرائيل.

هذا المشروع أُعلن عنه قبل عملية «طوفان الأقصى» بثلاثة أسابيع، وهدفه الواضح هو إقامة «سوق إبراهيمي» في المنطقة، يقطع الطريق على مشروع «طريق الحرير» الصيني، ويُثَبِّت حلفاً إقليمياً برعاية أميركية، ركيزته الأساسية إسرائيل المتفوقة عسكرياً وتكنولوجياً، يضمن لأميركا الهيمنة على غرب آسيا، ويفرغها لمعركتها الكبيرة جنوب شرق القارة.

أدرك الأميركيون بعد السابع من أكتوبر أن مشروعهم الاقتصادي/الأمني لن يتحقق ويستقر ويُثمر دون توجيه ضربة قاصمة إلى محور المقاومة، الذي لا يملك رؤية اقتصادية للإقليم ولكنه يسعى إلى مقاومة هيمنة أميركية سياسية واقتصادية وعسكرية في هذه المنطقة. لا تريد أميركا التورط مباشرة في حرب إقليمية كبرى، ولكنها اقتنعت بأن إعادة تأهيل إسرائيل بعد ضربة السابع من أكتوبر ضرورة لأداء المهمة نيابة عنها. تقاتل أميركا بالوكلاء، أوكرانيا وإسرائيل، مع فارق أهمية كبير لمصلحة الأخيرة في الإستراتيجية الأميركية.

لكن أميركا لا تبتعد عن مسرح العمليات، فهي حاضرة بأساطيلها لتغطية الخطوات التصعيدية الإسرائيلية، وتمكين إسرائيل من إنهاء مهمتها في كل جبهة على حدة، وكسر معادلات الردع لمصلحة إسرائيل، والدفاع عنها بشكل مباشر ضد هجمات إيران، فيما يعطي حذر إيران وحلفائها من التصعيد بغية تجنب حرب شاملة ومواجهة مع أميركا فرصة لإسرائيل للهيمنة على سلم التصعيد والعمل على استعادة هيبة الردع المتضررة جراء عملية «طوفان الأقصى».

الهدف الكبير لأميركا من هذه الحرب كسر هذا المحور، وعزل النظام في طهران عن أي تحالفات إقليمية، ودفعه للانكماش ثم مواجهة أزمات داخلية تطيح به. إسرائيل بدورها ترى نفسها في حرب وجود، بمعنى بقاء وظيفية الكيان الصهيوني وقدرته على توفير الأمن لمستوطنيه، وهي بالتالي تسعى إلى القضاء على حركات المقاومة بوصفها أخطاراً إستراتيجية مهددة للكيان، وهي تالياً تفرض حرب وجود على هذه الحركات أيضاً.

الإنجازات التكتيكية الإسرائيلية الكبيرة التي تحققت تجعل الأميركيين أكثر اقتناعاً بصوابية إعادة تأهيل إسرائيل للاعتماد عليها في حكم المنطقة، ولكنهم يعرفون أنها غير كافية إذا لم تتحول إلى منجز إستراتيجي. يبرز القلق الأميركي من اليوم التالي، حيث يريدون ترجمةً سياسيّة للمنجزات التكتيكية في الساحات المختلفة، تُتَوَّج بإحياء مشروع الحلف الإقليمي الأميركي، وهو ما لا يساعدهم فيه نتنياهو، الذي ليس لديه رؤية لكيفية إنهاء «حماس» في غزة، أو القضاء على تهديد حزب الله لمستوطنات الشمال، دون أن يدخل في استنزاف طويل، يبدد المنجزات التكتيكية.

تشنّ أميركا حرباً تريد عبرها حسم مستقبل المنطقة عقوداً لمصلحتها، لكن النجاحات التكتيكية لا تحسم الحرب، والمزيد من التصعيد الإسرائيلي سيحصل لمحاولة الحسم، غير أن إمكانية استنزاف إسرائيل ومن خلفها أميركا كبيرة.

* كاتب عربي