رغم انشغال العالم بالحرب العالمية الثالثة المنضبطة الدائرة على الأراضي الأوكرانية، التي تحاول من خلالها القوى الدولية العظمى والقوى الفاعلة ترسيم توازنات النظام العالمي لسنين مقبلة، والتي غطت تداعياتها بقدر كبير على مجريات الأحداث في منطقتنا التي لا تزال الأكثر اشتعالاً منذ عقود، فإن حقائق الجغرافيا وعقَد المواصلات البرية والبحرية عادت لتفرض حضور منطقة المشرق العربي وامتداداته في منطقة غرب آسيا كساحة رئيسة في أي عملية تحول جذري في التوازنات العالمية.
يمكن قراءة عودة اهتمام القوى الدولية بمنطقة المشرق العربي ضمن معركة صياغة عالم ما بعد الأحادية القطبية في أكثر من مفصل مؤخراً، كان منها حضور الصين المفاجئ كراعٍ للتفاهم السعودي الإيراني في آذار/مارس 2023.
كذلك، كان من تلك المظاهر إعادة نشر مقاتلات أميركية متطورة في المشرق العربي مؤخراً، بصرف النظر عن أن إعادة الانتشار تلك لم تكن مؤشراً على تحول في الاستراتيجية الأميركية العامة المبنية على عدم التورط في حرب جديدة في المنطقة.
أخيراً، جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد والوفد السوري المرافق لبكين في أيلول/سبتمبر 2023، بناءً على دعوة من الرئيس الصيني، وذلك لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، بحضور نحو 12 من رؤساء الدول الآسيوية، ولتوقيع الرئيسين الصيني والسوري على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
وقد قرأ البعض في تلك الزيارة رفيعة المستوى سعياً لتغيير المشهد الجيوسياسي الإقليمي، ونزعة صينية متزايدة لتحدي الهيمنة الأميركية التقليدية في المنطقة، لكن ضمن المحددات العامة للسياسة الخارجية الصينية التي تتسم بالحذر المدروس وبالتقدم البطيء نسبياً في المحافل الدولية.
يأتي ازدياد الحضور الصيني في ساحة المشرق العربي، لينضم إلى مجموع المؤثرات الدولية الأخرى القائمة في المنطقة أصلاً، فقد استعادت روسيا موقعها كمؤثر رئيس في مجرى أحداث المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، لتصبح على قدم المساواة مع الحضور الأميركي المستمر والتقليدي في المنطقة من جهة التأثير.
وبهذا، صارت هذه العوامل الدولية مجتمعة تشكل واحداً من 3 ضوابط مفصلية تتحكم في توقيت الحرب الإقليمية الشاملة بين محور المقاومة والكيان المؤقت، بحسب ما يرى هذا المقال.
تعد فكرة الحرب الإقليمية أو ما يسميه البعض الانتقال إلى مرحلة الهجوم المعاكس الشامل من أكثر المواضيع تداولاً في الصالونات السياسية هذه الأيام، فالتساؤلات تدور عما إذا كانت هناك في الأفق حرب إقليمية مقبلة؟ ومتى تقع؟ وكيف ستكون طبيعتها؟
ولا يمكن واقعياً الجزم بالإجابة عن هذه التساؤلات، ولكن من الممكن محاولة حصر العوامل التي تشكل الإطار الحاكم لاحتمال نشوب حرب إقليمية شاملة، ووضعها ضمن 3 ضوابط أساسية: اثنان يدفعان نحو الحرب، وثالث آخر مثبط، على النحو الآتي:
الضابط الأول: اختلال موازين القوى
تشير الوقائع وطريقة تعاطي الأطراف الإقليمية مع الأحداث إلى حصول تبدل ملموس في موازين القوى التي كانت تحكم الإقليم لعقود، فإحجام الكيان المؤقت عن شن حرب واسعة على حزب الله في لبنان منذ 2006 من أجل القضاء على قوته أو تحييد خطره على أقل تقدير، وذلك رغم مراكمة الحزب المطردة لعناصر القوة العسكرية التي وصلت فيما وصلت إليه إلى حد امتلاكه الصواريخ الدقيقة وإنشائه "مطار الجبور" العسكري في جنوب لبنان على بعد 20 كيلومتراً فقط من الحدود مع فلسطين المحتلة.
يُضاف إلى ذلك عدم قدرة "جيش" الاحتلال على اجتياح قطاع غزة برياً لإنهاء وجود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة فيه، بل على العكس، باتت الفصائل الفلسطينية تقيم المناورات العسكرية تحت مرأى ومسمع من "جيش" الاحتلال من دون أن يقوم بأي رد فعل يذكر، وذلك بسبب مجموعة حسابات معقدة عن الخسائر والأرباح لم يكن الكيان المؤقت ليقيم لها بالاً في الماضي القريب.
لقد جاءت حادثة خيمة حزب الله التي نصبها في مزارع شبعا لتختصر صورة الديناميكيات الجديدة التي باتت تحكم محدودية قدرة الكيان المؤقت على توظيف "جيشه" في مواجهة قوى التحرر العربي والإسلامي، ناهيك بعدم قيامه بعملية عسكرية ضد المشروع النووي الإيراني رغم تهديداته المتكررة بذلك، وحصره المواجهة في هذا المجال بالعمليات الأمنية والاستخباراتية، وذلك تفادياً لحرب لا يستطيع التنبؤ بمداها ونتائجها.
لطالما كانت حسابات الأطراف المتقابلة لتوازنات القوة فيما بينها العامل الأول المؤثر في نشوء الحروب في التجارب التاريخية عموماً، ويبدو أن أركان محور المقاومة باتت تشعر بفائض قوة يمكنها من الضغط على العدو في أكثر من ساحة وتجاوز خطوط كان يَعدها العدو حمراً في الماضي. كان هذا يجري تحت سقف رسمته لنفسها قوى محور المقاومة -أقله حتى اللحظة- يقضي بعدم الدخول في حرب مفتوحة في الإقليم ضمن معادلة "لا نريد الحرب، لكننا لا نخشاها".
لكن لأي مدى يمكن أن يستمر اللعب على خطوط التماس من دون خروج الأمر عن دائرة التحكّم؟ كيف إذا كان تبدل موازين القوى لا يمكن رصده فعلياً من دون اختباره في الميدان بصورة عملية من خلال الحرب، ناهيك بإمكانية تبدل معادلة محور المقاومة طبقاً للظروف لتغدو: "نريد الحرب ولا نخشاها"؟
الضابط الثاني: صلابة مواقف الأطراف
ترى قوى التحرر العربي والإسلامي في المدى المتوسط إمكانية واقعية لإزالة الكيان المؤقت الذي تعده عنصراً أساسياً في إدامة منظومة الهيمنة الغربية التي تعرقل التنمية في المنطقة واستقرارها، حالها في ذلك حال باقي دول "الجنوب العالمي" التي ترزح تحت الهيمنة الغربية.
تتجلى الشواهد على ذلك في صراع امتد لعقود، كان آخرها مثلاً رفض الجمهورية الإسلامية القاطع لعروض قدمتها لها بعض الدول، تقضي بمقايضة تخفيف الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على قواتها في الأراضي السورية، في مقابل تخفيف الدعم الذي تقدمه لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا سيما في ساحة الضفة، ما عدته الجمهورية الإسلامية طرحاً يتناقض مع طبيعتها وأسس تكوينها العقائدي.
المصدر: الميادين