Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

عودة إسرائيل القوية القادرة

حين تقرأ المقالات والتحليلات في الصحف العبرية، ثم تقرأ وتسمع ما تكتبه وتقوله مجموعة من الليبراليين العرب عن وضع إسرائيل في هذه الحرب، تصل لنتيجة مفادها أن هؤلاء الليبراليين العرب أكثر إيماناً بقوة وقدرات إسرائيل من المحللين الإسرائيليين، وأكثر تفاؤلاً بمستقبل الصهاينة.دبّت الروح في هؤلاء الليبراليين مع الضربات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان، ولا شك أنهم كانوا مصدومين بما حصل في السابع من أكتوبر، لكنهم اعتبروه «كبوة جواد» يمكن تجاوزها. جوهر المسألة هو تمسكهم بالنظرة «الواقعية» للصراع، القائمة على التسليم بالهزيمة أمام إسرائيل، واعتبار مقاومتها عبثاً جالباً للخراب، وهي جزء من التسليم بالتفوق الغربي المطلق، ممزوجاً بالإصرار على انضواء العرب تحت المظلة الغربية، ورفض مقاومة الغرب باعتبارها عائقاً أمام الاندماج في الحضارة والحداثة الغربيتين.

معظم هؤلاء انتهى التاريخ بالنسبة إليهم عند لحظة انهيار جدار برلين، ورغم أن الأميركيين الذين كانوا يؤمنون بنهاية التاريخ مع انتصار النموذج الليبرالي الغربي قد راجعوا قناعاتهم، كما أن أحداثاً كثيرة منذ نهاية الحرب الباردة قد كشفت عن إشكالات غربية كثيرة وتراجع واضح، إلا أن هؤلاء «الواقعيين» لا يتزحزحون عن تأليه أميركا وإسرائيل. وقد جاءت الفرصة لتعزيز طرحهم عبر امتداح التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، وتأكيد عدم قدرة أي مقاومة على مجاراته.

لنتجاوز الحديث عن حركة التاريخ القائمة على مراكمة الفعل المقاوم لتحميل القوى المستعمرة أكلافاً فوق طاقتها بما يعوّض الخلل في موازين القوى، ويدفع المستعمر للتراجع والانكفاء. لنتجاوز أيضاً حالات الإخفاق الإسرائيلية في حملات عسكرية متعددة ضد قوى المقاومة في فلسطين ولبنان خلال العقدين الماضيين. السؤال «الواقعي» الذي يجب أن يُطرح اليوم على هؤلاء: في أي عالم تعيشون؟

إذا كان حديث بعض المتحمّسين الذي يؤدّي إلى تكوين قناعة بأنّ حركات المقاومة باتت لا تُقهر، يفتقر إلى الواقعية، فإنّ الحديث عن تفوّق إسرائيل الكاسح هو ضرب من بيع الأوهام.

إنّ تقييماً موضوعياً لمجريات الحرب حتى الآن، بعيداً عن أحاديث التعبئة ورفع المعنويات (ومن غير الممكن الحديث عن نصر وهزيمة في خضم المعركة) يفضي إلى القول بوجود مأزق إستراتيجي تعيشه إسرائيل وداعموها الغربيون، وهو مأزق لا يحلّه التفوّق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي. انطلقت إسرائيل في هذه المعركة نحو استعادة هيبة الردع، وفرض إرادتها على أعدائها باستخدام تفوقها العسكري، وعلى هذين الأساسين يمكن تقييم نجاحها من عدمه.

في غزة، حقّقت إسرائيل نجاحات تكتيكية، عبر عمليات القصف ثم التوغّل البرّي. يمكن القول إنها خفضت إلى حد كبير من خطر الصواريخ على جبهتها الداخلية، وتمكّنت من الإضرار بالجسم العسكري لـ«كتائب القسام»، لكن المنجزات التكتيكية لا ترقى إلى تحقيق أهداف الحرب. لم تنجح إسرائيل سوى في استعادة عدد صغير من الأسرى عبر عملياتها، فيما قتلت عدداً منهم، وفشلت في استعادة الآخرين، أمّا «كتائب القسام»، فلم يُقضَ عليها، وهي ما زالت تقاتل في حرب استنزاف للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة، كما أن سيطرة حركة «حماس» على القطاع باقية في كل المناطق التي خرجت منها القوات الإسرائيلية.

وفي لبنان، نجحت إسرائيل في توجيه ضربات قاسية لحزب الله في عمليات البيجر وأجهزة اللاسلكي والاغتيالات، وهي اليوم تهيمن على سلم التصعيد، وقد تمكّنت، على مستوى لبنان والإقليم، من خلخلة توازن الردع أكثر لمصلحتها ولو مؤقتاً. لكن هذا كلّه لا يقود إلى تحقيق منجز إستراتيجي حتى الآن، أو تحقيق أهداف التصعيد. ما زال تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية قائماً بفعل صواريخ حزب الله، والمستوطنون المهجَّرون من الشمال لا يستطيعون العودة، وإسرائيل عاجزة رغم التصعيد المتواصل عن ردع حزب الله في ما يخصّ عملياته ضدّ المواقع العسكرية والمستوطنات شمال فلسطين المحتلة، وفصل الجبهة اللبنانية عن جبهة غزة. وإذا لم ينجح القصف الجوي المسعور في ردعه، فإنّ عملاً برياً سيصبح ضرورياً، وهنا قد توسّع إسرائيل مأزقها.

لم تتمكّن إسرائيل من تحقيق الردع الذي تريده في الجبهتين رغم ذهابها بعيداً في التصعيد، ولم تتمكّن من فرض إرادتها، لا عبر كسر إرادة أعدائها على مواصلة القتال، ولا بإجبارهم على الوصول إلى تسوية مرضية تحت ضغط العمل العسكري. إذا كان حديث بعض المتحمّسين الذي يؤدّي إلى تكوين قناعة بأنّ حركات المقاومة باتت لا تُقهر، يفتقر إلى الواقعية، ويبني توقّعات غير عملية، فإنّ الحديث عن تفوّق إسرائيل الكاسح، وجيشها الذي لا يقهر، بعد كل ما جرى ويجري، هو ضرب من بيع الأوهام، والتمسّك بمقولات بالية، والانفصال عن الواقع، لدرجة أنه يمكن أن يثير سخرية بعض كتّاب ومحلّلي صحيفة «يديعوت أحرونوت».

* كاتب عربي