خرائط نتنياهو – ترامب، باتت عنواناً للمرحلة التي يعمل اليمين جاهداً على إتمامها. الأول أظهر خريطتين في أسبوع واحد، لا أثر فيهما للضفة الغربية. والثاني ظهر كما لو أنه يرى خريطة للشرق الأوسط للمرة الأولى!
لست من أنصار نظرية "الدافع الشخصي" في تفسير سلوك بنيامين نتنياهو، ولا أنا ممن يعتقدون أن "الحماقة" وحدها هي ما يدفعه إلى إدارة الظهر لكل الأصوات الداعية إلى وقف الحرب والذهاب إلى إبرام صفقة لتبادل الأسرى والسجناء، ومن باب أولى، عدم الذهاب إلى مغامرة في الجبهة الشمالية مع حزب الله والمقاومة اللبنانية.
لا يعني ذلك، لحظةً واحدة، انعدامَ أثر العوامل المتعلقة بمستقبل نتنياهو الشخصي ومستقبله السياسي في تقرير سلوكه وحسم قراراته وخياراته، كما لا يعني، أيضاً، نفي أثر الحسابات الخاطئة والتقديرات المستمدة مع نظرة إلى الذات والآخر، عنصرية واستعلائية في مضمونها. هذه العوامل حاضرة في حسابات الرجل، لكنها لا تحتل المكانة الأهم في "لائحة" دوافعه ومحركاته.
ومن الخطأ أساساً، ونحن نتحدث عن مواقف "إسرائيل" وخياراتها طوال العام الذي أعقب زلزال السابع من أكتوبر، أن نحيلها على رجل واحد: نتنياهو، أو حتى على حفنة من الرجال: بإضافة سموتريتش وبن غفير إليه. نحن نتحدث عن تيار ديني متصهين، أو صهيوني متدين، عنصري في جوهر مواقف وقناعاته الأيديولوجية، وفاشيّ من طراز تخجل منه الفاشية والنازية في طبعاتهما الأولى.
نتحدث عن تيار، يضرب عميقاً في تربة المجتمع، ونجح في التسلل إلى أعلى ذرى الهرم في "الدولة"، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وصار صاحب الكلمة العليا في مؤسسات صنع القرار فيها. نحن نتحدث عن تيار، يتوج مسيرة أكثر من عشرين عاماً من التحولات والانزياحات المنهجية المنظمة، والتي نقلت "إسرائيل"، مجتمعاً و"دولةً"، إلى ضفاف أخرى، غير تلك التي أرادتها "الطليعة الأشكنازية" من "الآباء المؤسسين"، والذين انتموا، في أغلبيتهم العظمى، إلى مدرسة صهيونية – علمانية – ليبرالية، غربية الثقافة والميول، وغربية هنا تحيل على "الزمن الكولونيالي"، لكن بمضامين إلغائية وإحلالية في تعاملها مع المستعمَر (بفتح الميم)، مع جرعة فائقة من قيم الحداثة والحرية والديمقراطية، المحصورة فقط في مجتمع المستعمِر (بكسر الميم).
هي مفارقة التاريخ وسخريته في آن واحد. علمانيون، يساريون في أغلبيتهم الأعم، معظمهم لا يؤمن بالله، بيد أنهم جميعاً يؤمنون بـ"بوعده لشعبه المختار"، يقيمون دولة على ركنين: الخرافة والمجزرة. يُنشئون نظاماً يحاكي النظم الغربية في قواعده ومنظوماته، لكنه مجتمع ما فتئ، منذ مئة عام، يرقص فوق جثث الضحايا، ويمارس طقوساً احتفالية حول أنقاض القرى والبلدات المهدَّمة، في استعادة لبدائية الإنسان وهمجيته، قبل أن ينخرط بعمق في "الانتظام الاجتماعي العام".
مفكرون كثر، أغلبيتهم من مدرسة اليسار، قالوا مبكراً: إن شعباً يستعبد شعباً آخر، لا يمكن أن يكون حراً. البعض قال إن تلكم المفارقة، ستفضي حتماً إلى انهيار البعد الغربي – الديمقراطي – الحداثي في التجربة الإسرائيلية، فالاحتلالُ ممارسة تستحق التجريم كما في القانون الدولي، والذي يقوم بها لأعوام وعقود طويلة، لا بد من أن يفقد إنسانيته بالكامل، ولا بد من أن تستيقظ لديه غرائز القتل وشهية الانتقام، مدفوعاً بالرغبة في نفي الآخر، وبالخوف منه في الوقت ذاته. و"الآخر" هنا عرضة للتبدل والتوسع، وقد يشمل فريقاً من أبناء جلدة المستعمِرين. الاحتلال المديد للأرض والشعب الفلسطينيين، خلق أجيالاً من اليهود الإسرائيليين، ليسوا من صنف البشر. هؤلاء كانوا ينضحون بأنياتهم وهم يطلقون صفة "الحيوانات البشرية" على الفلسطينيين في قطاع غزة.
مشروعان في مشروع واحد
أياً يكن من أمر، وبعد هذه التوطئة الضرورية لفهم صيرورة تحول المجتمع والنخب الحاكمة في "إسرائيل"، نعاود طرح السؤال عن دوافع حكومة نتنياهو ومحركاتها الكامنة وراء هذا السعار المحموم في سلوكها ضد أهل غزة والضفة، واستتباعاً ضد أهل لبنان، وصولاً إلى الأردن، بعد العملية الفدائية عند معبر الكرامة/جسر الملك حسين.
في ظني أن اليمين الإسرائيلي، الذي بدأ مشوار صعوده بعد "انقلاب 1977"، دانت له السلطة والحكم، بعد أن مر طريقه إلى السلطة في عمليات مدّ وجزر، وصعود وهبوط. ولأنه الأقدر، كما يدعي، على حفظ الأمن لليهود الإسرائيليين، فردياً وجماعياً، كانت حظوظه في الوصول إلى السلطة وتعزيز قبضته عليها، أعلى كلما اهتزت الحالة الأمنية كما حدث بعد انتعاش العمليات الاستشهادية في أواسط تسعينيات القرن الفائت، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى التي كانت شرارتها زيارة أرئيل شارون، أحد أكبر أقطاب هذا اليمين، للمسجد الأقصى، قبل أن تدنسه "الأقدام الهمجية" لبن غفير وميليشياته، بعشرين عاماً على الأقل.
يرمي اليمين الديني والقومي بقيادة نتنياهو، إلى إغلاق ملفين استراتيجيين، عجز "الآباء المؤسسون"، من يسار ويمين، عن إغلاقهما:
الملف الأول: حسم الصراع مع الفلسطينيين وتصحيح "أخطاء التاريخ" التي اقترفها بن غوريون وإسحق رابين وأرئيل شارون. الأول، بتوقفه عن تهجير الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 48، ومواصلة اقتراف المجازر والتهجير القسري إلى خارج الخط الذي سيوصف لاحقاً بـ"الأخضر". والثاني، بإبرامه اتفاق أوسلو، وإبدائه الاستعداد للتخلي عن غزة وأجزاء واسعة من "يهودا والسامرة"، وهو ما سيدفع حياتَه لاحقاً ثمناً لإبرامه، بتحريض من نتنياهو شخصياً. والثالث، بسبب مسؤوليته الخاصة عن قرار "إعادة الانتشار" من جانب واحد عن غزة، وتفكيك عدد من المستوطنات في القطاع، في تصرف يوصف اليوم، بـ"الخيانة العظمى"، حتى إن طاول أحد أبرز جنرالات الجيش الإسرائيلي، وأهم الأركان في معسكر اليمين.
حسم الصراع، بدلاً من إدارته كما فعل أسلاف نتنياهو، الحسم بدلاً من "التدرج" كما كانت عليه حال الحكومات المتعاقبة من يسار ويمين، باتا اليوم "استراتيجية دولة"، بعد أن كانا وجهة نظر لأقصى يمين الخريطة الحزبية الإسرائيلية. وهذا يقتضي، من ضمن ما يقتضي، تصفية المقاومة أولاً، وإنكار وجود السلطة الفلسطينية، والعمل على تحويلها إلى "مجلس بلدي موسع"، توطئة للتخلص منها في المقام الأخير، وتوسيع الاستيطان وتسريعه وتكثيفه، والتعجيل في إنجاز مشاريع "الأسرلة" والتهويد في القدس، على نحو يشمل مقدساتها والمسجد الأقصى المبارك، واستباحة مدن الضفة الغربية ومخيماتها وبلداتها، وتجريف كل سبل الحياة المدنية وبناها التحتية، وتحويلها إلى مناطق غير صالحة للعيش البشري، أو إلى "غزة ثانية"، وإطلاق "الرسن" لقطعان المستوطنين وميليشياتهم ليعيثوا قتلاً وإحراقاً وتجريفاً للبشر والشجر والحجر في الضفة، وتنفيذ خطة تهجير على مراحل، تبدأ بتفريغ المنطقة (ج) في الضفة (62 في المئة) من مساحتها، إلى منطقتي (أ و ب)، ثم دفع كل من في حوزته أوراق ثبوتية أردنية (يقال إن عددهم يصل إلى 700 ألف، يشكلون 20 في المئة من سكان الضفة) إلى المغادرة، في عملية ظاهرها هجرة طوعية وباطنها تهجير قسري. الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني تدور رحاها في غزة، بينما عين اليمين الحاكم متسمرة على القدس والضفة.
خرائط نتنياهو – ترامب، والتي تتطاير بكثرة هذه الأيام، باتت عنواناً للمرحلة الجديدة التي يعمل اليمين جاهداً على إتمامها عبر حسم الصراع. الأول أظهر خريطتين في أسبوع واحد، لا أثر فيهما للضفة الغربية. والثاني ظهر كما لو أنه يرى خريطة للشرق الأوسط للمرة الأولى، ليكتشف أن "إسرائيل" كيان صغير وضئيل، وأن الحاجة تقتضي التفكير في توسيعه؟!
إدارة بايدن (والديمقراطيون عموماً) ما زالت على "منهجها" في إدارة الصراع بدلاً من حسمه، وهذا منشأ اختلافها وتباينها مع حكومة نتنياهو، وهذا سبب كامن وراء رغبة الحكومة الإسرائيلية الحالية في تمديد أجَل الحرب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، على أمل أن يتمكن ترامب (والجمهوريون) من العودة إلى البيت الأبيض ومقاعد الأكثرية في مجلسي الكونغرس، ولتفادي تقديم "هدايا مجانية" إلى كامالا هاريس وحملتها الانتخابية، ولاسيما في ضوء التقديرات أنها ستكون أقل تعاوناً مع حكومة اليمين المتطرف إن بلغت البيت الأبيض، من ساكنه الحالي جو بايدن، الصهيوني الفخور، على رغم "لايهوديته".
الملف الثاني إعادة التشكيل والصياغة لـ"الدولة" والنظام السياسي الإسرائيليين، ليكونا أكثر تعبيراً عن التحولات العميقة في بُنى المجتمع، الديموغرافية والسياسية والإيديولوجية، وأكثر تمثيلاً للنخب الجديدة، الدينية القومية، المزراحية الحريدية السفاردية، والتي تسعى للتخلص من موروث الثقافة والقيم الغربية، و"تطهير الدولة" من رجس بقايا اليسار الصهيوني ومخلفاته. وهي عملية بدأها نتنياهو بنشاط في حكومته الأولى في تسعينيات القرن الفائت، عندما فكك الأنماط الاقتصادية "شبه الاشتراكية والتعاونية"، والتي أقامها "المعراخ"، وهو يواصل اليوم العمل على تفكيك قواعد النظام السياسي الإسرائيلي، أو ما يسمى في أدبيات خصومه بـ"الانقلاب القضائي".
تعاظم دور الدين في السياسة والفضاء العام، وسيادة خطاب "الإلغاء" في حروب الاتهامات المتبادلة بين قطبين ديني وعلماني، سلطة ومعارضة، والدور الابتزازي المُقرّر للوبي الاستيطاني المستند إلى قاعدة ديموغرافية تعادل تعداد سكان "إسرائيل" عند قيامها، وانتقال "إسرائيل" إلى "دولة" حاضنة للميليشيات المدججة بالسلاح وأيديولوجيا الكراهية، والمؤشرات السكانية الدالّة على سيادة هذه المكونات على حساب النخبة الغربية المتمركزة في بعض مدن الساحل، هي بعض من كل عناوين المشروع الذي يسعى اليمين الإسرائيلي لإنجازه، ويعتقد أركان أن لديهم فرصة قد لا تتكرر، لإنجازه بالكامل، أو قطع أشواط طويلة، وغير قابلة للانتكاس، في طريق إنجازه. وربما لهذا السبب بالذات، نجد هذا التناغم بين مكونات اليمين المتطرف في السلطة والمعارضة. لا اليمين في السلطة لديه النيّة للتخلي عن نتنياهو، ولا اليمين في المعارضة لديه خطاب مغاير، وخلافاته مع حكومة نتنياهو إنما تقع في الهوامش وليس في المتن.
والجدير بملاحظته أن سعي اليمين، الأكثر تطرفاً وفاشية، لتحقيق حلمه ببناء "إسرائيل ثانية" أو "مملكة ثانية"، إنما يتقاطع ويتداخل مع سعيه لإنجاز "خطة حسم الصراع" مع الفلسطينيين. فالمشروعان يكادان يندمجان في مشروع واحد، وأي فشل في تحقيق أحدهما سيرتد بأوخم العواقب على الآخر. وربما لهذا السبب، ينظر إلى هذه الحرب بصفتها حرباً وجودية، وربما لهذا السبب أيضاً، يضرب السُّعار معسكر اليمين، فنراه يضرب يمنة ويسرة، وهو يعدّه بعض المراقبين درباً من دروب الحماقة التي أعيت من يداويها، لكنها، في حقيقة الأمر، دفاع مستميت عن "صورة أخرى" و"مستقبل آخر" لـ"إسرائيل" ولصراعها مع الشعب الفلسطيني.
هل ستنجح "إسرائيل"؟
ليس ثمة ما يشي بأن النجاح سيكون – بالضرورة - حليفاً ليمين "إسرائيل" الفاشي في مسعاه لحسم الصراع مع الفلسطيني. ومن المشكوك فيه أن ينجح في مسعاه الثاني لإعادة بناء "الدولة" والنظام السياسي على صورته وشاكلته. تكلفة العمل على المشروع الأول يدفعها الإسرائيليون من أمنهم واقتصادهم وجنودهم وضباطهم ومستوطناتهم الحدودية. والحرب على غزة ما زالت بعيدة عن خط نهايتها، والاحتمالات في جبهات الإسناد ما زالت مفتوحة أمام أخطرها وأفدحها ضرراً.
أما التكلفة المترتبة على المضي قدماً في المشروع الثاني، فستدفعها "إسرائيل" من علاقاتها بالغرب، فضلاً عن يهود العالم، ليس في المدى الفوري والمباشر – ربما - لكن في المديين المتوسط والبعيد، بعد أن تهشّمت صورتها، وتهمّشت مكانتها الردعية، ومع نشوء جيل من النخب الغربية متحرّر من سرديات "إسرائيل" وأكاذيبها وحملاتها الدعائية وابتزازها، الذي بات يطاول حرية الرأي والتعبير، ليس في الدول القريبة منها فقط، كما فعلت دائماً، وإنما أيضاً في مراكز الغرب وحواضره.
هي معركة مفتوحة، تدور بكثافة في قطاع غزة وفي جبهات الإسناد، لكن فصولها تتواصل في شوارع "تل أبيب" والقدس ومختلف المدن في الداخل المحتل، بيد أن أصداءها وتداعياتها تكاد تغطي دول العالم، في قاراته الستّ الآهلة، والنصر في خواتيمها. لن يكون، في المدى الأبعد، لفرسان الفاشية والنازية الجديدة.